لكنك هل تجد في المثالين الآخرين وقوع بيان عن آية بآية أخرى؟
ففي المثال الثاني: تجد أن المفَسّر جمع عدة آيات يربطها موضوع واحد،
وهو حكمة خلق النجوم، فهل وقع بيان لآية بآية أخرى في هذا الجمع؟
لاشك أنه لم يقع هذا البيان، لأن الأية الأولى التي جمع المفسر معها ما
يوافقها في الموضوع لم يكن فيها ما يحتاج إلى بيان قرآني آخر.
وفي المثال الثالث: تجد أن المفَسّر جمع بين عدّة آيات تُوهم بالاختلاف،
لكن هل وقع في جمع هذه الآيات تفسير بعضها ببعض؟ أم أن تفسيرها جاء من
مصدر آخر خارج عن الآيات؟
الذي يبدو أن جمع هذه الآيات أثار الإشكال؛ إذ التراب لا يُُفسّّر بالطين، ولا
بالحمأ المسنون ... إلخ، كما أن كل واحدٍ من الآخرين لا يُفسّر بالآخر؛ لأنه
مختلف عنه. ولما كان الخبر عن خلق آدم والإخبار عنه مختلف احتاج المفسر إلى
الربط بين الآيات ومحاولة حلّ الإشكال الوارد فيها، ولكن الحلّ لم يكن بآية أخرى
تزيل هذا الإشكال، بل كان حلّه بالنظر العقلي المعتمد على دلالة هذه المتغايرات
وترتيبها في الوجود، مما جعل المفسر لهذه الآيات ينتهي إلى أنها مراحل خلق آدم
عليه السلام، وأن كل آية تتحدث عن مرحلة من هذه المراحل، حيث كان آدم
تراباً، ثم طيناً، ثم ... إلخ.
وبهذا يظهر جليّاً أنّ جمع الآيات لم يكن فيه بيان آية بآية أخرى، وإن كان
في هذا الجمع إفادة في التفسير.
وبعد .. فإن النتيجة التي تظهر من هذه الأمثلة: أن كل ما قيل فيه: إنه
تفسير قرآن بقرآن، إذا لم يتحقق فيه معنى البيان عن شيء في الآية بآية أخرى،
فإنه ليس تعبيراً مطابقاً لهذا المصطلح، بل هو من التوسع الذي يكون في تطبيقات
المصطلح.
تفسير القرآن بالقرآن عند المفسرين:
ظهر مما سبق أن مصطلح (تفسير القرآن بالقرآن) قد استُعمل بتوسع في
تطبيقاته، ويبرز هذا من استقراء تفاسير المفسرين، خاصة من نصّ على هذا
المصطلح أو إشار إليه في تفسيره؛ كابن كثير (ت: 774ه)، والأمير الصنعاني
(ت: 1182ه)، والشنقيطي (ت: 1393ه).
ويبدو أن كل استفادة من آيات القرآن؛ كالاستشهاد أو الاستدلال بها يكون
داخلاً ضمن تفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره الصنعاني في تفسير قوله تعالى:] لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ
أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [[الشعراء: 3] حيث قال:» أي قاتلها لعدم إيمان قومك.
» تكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع:] وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [
[الحجر: 88] وفي الكهف:] فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً [[الكهف: 6]. وفي فاطر:] فَلاتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [[فاطر: 8].
ونحوه:] إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلّ [[النحل: 37].
ونحو ذلك مما هو دليل على شفقته على الأمة، ومحبته لإسلامهم، وشدة حرصه
على هدايتهم مع تصريح الله له بأنه ليس عليه إلا البلاغ «[8].
ويمكن القول: إنه ليس هناك ضابط يضبط المصطلح المتوسع بحيث يمكن
أن يقال: هذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن، وهذا لا يدخل فيه؛ ولذا يمكن
اعتبار كتب (متشابه القرآن) [9]، وكتب (الوجوه والنظائر) من كتب تفسير القرآن
بالقرآن بسبب التوسع في المصطلح.
فكتب (متشابه القرآن) توازن بين آيتين متشابهتين أو أكثر، وقد يقع الخلاف
بينهما في حرف أو كلمة، فيبين المفسر سبب ذلك الاختلاف.
وكتب (الوجوه والنظائر) تبيّن معنى اللفظ في عدة آيات، وتذكر وجه الفرق
فيها في كل موضع.
* المفسرون المعتنون بهذا المصدر:
إن مراجعة روايات التفسير المروية عن السلف تدل على أن عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم (ت: 182ه) كان من أكثر السلف اعتناءً بتفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما رواه عنه الطبري (ت: 310ه) بسنده في تفسير قوله تعالى:] وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ [[الطور: 6] قال:» الموقَد، وقرأ قول الله تعالى:] وَإذَا
البِحَارُ سُجِّرَتْ [[التكوير: 6] قال: أُوقِدَتْ «[10].
أما كتب التفسير، فإن من أبرز من اعتنى به ثلاثة من المفسرين هم:
(1) الحافظ ابن كثير (ت: 774ه) في كتابه (تفسير القرآن العظيم).
¥