تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

يدله قوله: "كنت رجلاً أعطيت جدلاً في الكلام، فمضى دهر فيه أتردد، وبه أخاصم وعنه أناضل، وكان أصحاب الخصومات والجدل أكثرهم بالبصرة، فدخلت البصرة نيفاً وعشرين مرة ... " [14] وقال قبيصة بن عقبة: "كان الإمام أبو حنيفة – رحمه الله – في أول أمره يجادل أهل الأهواء، حتى صار رأساً في ذلك منظوراً إليه، ثم ترك الجدل ورجع إلى الفقه والسنَّة وصار إماماً" [15] وهناك ممن ينتسب إلى الحنفية كالماتريدية يقول بأن إمام السلفية أبو حنيفة لم يترك الكلام تركاً كلياً بعد أن فضح المتكلمين وأظهر عوراتهم، وهذا الكلام فيه تخليط لأن الإمام أبا حنيفة ترك علم الكلام تركاً كلياً وصرح بذلك مبيناً سبب الترك، حيث قال: "رأيت المشتغلين بالكلام قاسية قلوبهم، غليظة أفئدتهم، لا يبالون بمخالفة الكتاب والسنة والسلف الصالح، ولو كان خيراً لاشتغل به السلف الصالحون." [16] وهذا القول يرد زعم من زعِم إن الماتريدية ليست إلا استمراراً لمدرسة الإمام الأعظم، من غير أن يكون بينهما إلا فرق بسيط، ولا يعتد به. [17] فكيف يقال إن الماتريدية ليس إلا استمراراً لمدرسة الإمام أبي حنيفة والماتريدية خالفت أبا حنيفة في نفي كثير من الصفات الإلهية، والقول بكلام النفسي، وفي مسمى الإيمان، وفي مصادر الاستدلال في الاعتقاد؟!

لم ينبغ الإمام في الكلام والجدال فحسب، فحين أراد الله بالإمام خيراً ترك علم الكلام والجدال، حتى أصبح إمام الفقه في عصره، ساعده على ذلك ما فطره الله عليه من الذكاء والفطنة والسجايا الحسنة كالصبر والحلم، وهذه الأمور كلها ساعدت على نبوغه؛ ففاق أقرانه والكثير من أهل عصره في هذا العلم، فكان الناس عيالاً عليه، كما قال الإمام الشافعي: "من أراد أن يعرف الفقه؛ فليلزم أبا حنيفة وأصحابه؛ فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه." [18] وقال عبد الله بن المبارك: "أبو حنيفة أفقه الناس" [19] وقال حفص بن غياث: "كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشَّعر" [20] وقد صدق حفص بن غياث، فمن المسائل الفقهية الدقيقة التي عرضت على أبي حنيفة، ما ذكره الصالحي عن وكيع قال: "كنا عند أبي حنيفة فأتته امرأة فقالت: مات أخي وخلف ستمائة دينار، فأعطوني منها ديناراً واحداً، قال: ومن قسم فريضتكم؟ قالت: داود الطائي. قال: هو حقك أليس خلَّف أخوك بنتين؟ قالت: بلى، قال: وأُمَّاً؟ قالت: بلى، قال: وزوجة؟ قالت: بلى، قال: واثني عشر أخاً وأختاً واحدة؟ قالت: بلى، قال: فإن للبنات الثلثين أربعمائة، وللأم السدس مائة، وللمرأة الثمن خمسة وسبعين، ويبقى خمسة وعشرون؛ للإخوة أربعة وعشرون لكل أخٍ ديناران، ولكِ دينار." [21] لذلك قال الذهبي في فقه أبي حنيفة: "الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه – ثم أستشهد بهذا البيت:

وليس يصح في الأذهان شيءٌ +إذا احتاج النهار إلى دليل [22]

سلفية أبو حنيفة:

أن من أهل البدع من انتسبوا إلى الإمام أبي حنيفة النعمان – رضي الله عنه - كالماتريدية وغيرهم، ونسبوا إليهم عقيدة التعطيل بالتأويل الباطل، وهذا فرية بلا مرية، ومن شك في ذلك، فليطالع "الفقه الأكبر" و"الفقه الأبسط " و" العقيدة الطحاوية" و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" يظهر له أن زعمه موقع له في خسران، وإن ليس كل من انتسب إلى الإمام أبي حنيفة وبقية أئمة أهل السنة والجماعة - رضوان الله عليهم - يعدُّ موافقاً له في أصول الدين وفروعه، بل هناك من كبار المبتدعة من انتسب إلى الإمام أبي حنيفة، وأبو حنيفة بريء منهم كبراءة الذئب من دم يوسف، فبالمقارنة بين الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي والماتريدية يظهر إنَّهما مختلفان في المنهج متباعدان في التطبيق في كثير من مسائل الاعتقاد. فلم يكن الماتريدي والماتريدية على منهج الإمام أبي حنيفة في الاعتقاد وإن انتسبوا إليه في الفروع، وإنه ليس من منهج الإمام أبي حنيفة نوع من التشبيه أو التعطيل، وكذلك لا يوجد في كلام الإمام تفويض مطلق، بل الذي في كلام أبي حنيفة تفويضٌ مقيَّدٌ بنفي العلم بالكيفيَّة فقط لا المعنى، فقد أثبت الإمام جميع الصفات: ذاتيَّة كانت أو فعليَّةً بدون تأويلٍ، أو تحريفٍ، وظلَّ ملتزماً بمنهجه هذا أثناء التطبيق؛ فأبى أن يُؤوِّل اليد بالقدرة أو النعمة، والرضا بالثواب، والغضب بالعقاب. فهم يُأولون صفات الله

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير