والرَزِيَّةُ كل الرزية أن من تلبس بشيء من هذه البدع فإنه ينسب ذلك إلى أبي حنيفة وهو بريء منها. فقد أنتسب إليه الحنفية من المعتزلية بعضاً من عقائدها [220]، وكذا المرجئة إرجاءً مطلقاً؛ ومن ذلك قول الشهرستاني: "ومن العجب أن غسان كان يحكي عن أبي حنيفة – رحمه الله – مثل مذهبه في الإيمان ويعده من المرجئة ولعله كذب كذلك عليه" [221]. وهذا والله لمسبة. وقد حقق أهل العلم أن انتسابهم إلى الإمام أبي حنيفة – رحمه الله تعالى – منكر من القول وزور.
قال ابن أبي العز – رحمه الله: "ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك – يعني علو الله تعالى على خلقه واستواءه على عرشه – ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاده. وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد – رضي الله عنهم – من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم، وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي لما أنكر أن يكون الله عزَّ وجلَّ فوق العرض، مشهورة." [222]
وقال شيخ الإسلام: "وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها ولاسيما وقد تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا، فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئاً من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك، ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد. وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي حنيفة شيئاً من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة." [223]
وقال أبو مظفر الإسفراييني: "قد نبغ من أحداث أهل الرأي من تلبس بشيء من مقالات القدرية والروافض مقلداً فيها، وإذا خاف سيوف أهل السنَّة نسب ما هو فيه من عقائده الخبيثة إلى أبي حنيفة تستراً به فلا يغرنك ما ادعوا من نسبتها إليه فإن أبا حنيفة بريءٌ منهم ومما نسبوه إليه." [224]
وقال شيخ الإسلام: "فما من إمامٍ إلاَّ وقد انتسب إليه أقوام وهو منهم بريء. فقد انتسب إلى مالك أناسٌ، مالك بريء منهم، وانتسب إلى الشافعي أُناس، هو منهم بريٌ، وانتسب إلى أبي حنيفة أناس هو بريْ منهم." [225]
وبعد هذا نصل إلى نتيجة واقعية وهي أن الحنفية تلبس كثير منهم بعقائد فرق شتىـ وجعلت كل فرقة تنسب عقيدتها إلى الإمام أبي حنيفة بخاصة وأهل السنَّة عامة، وكان بين هذه الفرق قدر مشترك من البدع كالتعطيل للصفات، والتحريف لنصوصها تحت ستار التنزيه، والتأويل، والقول بالإرجاء. وكان بين هذه الفرق احتكاك لرابطة عقائدية فيما بينها في الجملة، ولاعتناقها المذهب الحنفي، فصار هذا كله سبباً مهماً في اضمحلال العقيدة الحنفية التي قررها الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة وصارت العقيدة الماتريدية تمثل عقيدة جمهور الحنفية منذ عهد بعيد إلى العصر الحاضر، وأبو حنيفة بريء من الماتريدية براءة الذئب من دم يوسف.
والله أسأل أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وأن يوفقنا جميعاً لهدي كتابه والسير على سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل، نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى أن يقسم لنا من خشيته ما يحول بيننا وبين معاصيه ومن طاعته ما يبلغنا به جنته وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وأن يغنينا بجلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه وأن يتقبل توبتنا ويغسل حوبتنا إنه سميع مجيب وصلى وسلم على النبي الأمي محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
أعدّه وجمعه أخوكم/ أبو إبراهيم الرئيسي الحنفي (23 من ربيع الثاني 1423هـ)
المصادر والمراجع:
[1] إيقاظ الهمم ص62.
[2] الانتقاء لابن عبد البر ص145.
[3] إيقاظ الهمم ص72.
[4] مناقب الشافعي ج1 ص472؛ والرواية الأخرى لأبي نعيم في الحلية ج9 ص107.
[5] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ج3 ص430.
[6] إيقاظ الهمم ص113.
[7] مناقب أبي حنيفة للمكي ص20.
[8] تاريخ بغداد ج5 ص309.
[9] تاريخ بغداد ج5 ص310.
[10] الدر المختار ص1 ص55 - 56.
[11] رد المحتار ج1 ص57.
[12] الدر المختار ج1 ص53.
[13] الدر المختار ج1 ص52.
[14] مناقب أبي حنيفة للمكي ص54.
[15] عقود الجمان ص161.
[16] مناقب أبي حنيفة للمكي ص53.
[17] الإمام الأعظم أبو حنيفة المتكلم، لعناية الله إبلاغ الأفغاني ص96.
[18] تاريخ بغداد ج13 ص346.
[19] سير أعلام النبلاء ج6 ص403.
[20] سير أعلام النبلاء ج6 ص403.
¥