ب - أن يقال إن الذي هنا مخففة من الذين، وقد قال الزمخشري ما حاصله أن الذي لكونه اسم موصول يحتاج إليه في وصف كل معرفة بجملة، ويتكاثر وقوعه في كلامهم فإنه يقبل التخفيف، فكذا يقبل جمعه (الذين) التخفيف، كما أن الياء والنون في (الذين)، ليستا كالياء والنون في جمع المذكر السالم في قوة الدلالة على الجمع، لذا ساغ حذفها ولم يمتنع كما هو الحال في جمع المذكر السالم وأشباهه. [الكشاف:1/ 196]
ج - غير أنه يمكن توجيه قوله (الذي) في الحديث الذي بين أيدينا توجيهاً آخر، وهو أن تكون (الذي) هنا صفة لموصوف مفرد اللفظ، ولكنه جمعٌ في المعنى وذلك كلفظ (الجمع) فكأنه قال: (فكان الجمع الذي في أسفلها يمرون) فلما اعتبر لفظه وصف بالذي، ولما اعتبر معناه أعيد عليه ضمير الجماعة، أفاد ذلك صاحب المصابيح، وقال فيما نقله عنه القسطلاني في شرحه على صحيح البخاري: "وهو أولى من أن يجعل الذي مخففاً من الذين بحذف النون" [3].
3 - نظرات بلاغية
لا يخفى أن الرسول الكريم r هو أفصح البشر لساناً وأبلغهم بياناً، فقد كان كلامه كما قال الجاحظ: "هو الكلام الذي قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه وجل عن الصنعة ونُزه عن التكلف ... فكيف وقد عاب التشديق وجانب أصحاب التعقيب، واستعمل المبسوط في موضع البسط والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الحوشي ورغب عن الهجين السوقي ... لم تسقط له كلمة ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب ... ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه من كلامه r"[4].
ووصف الرافعي رحمه الله كلامه r من الناحية البيانية بأنه: "حسن المعرِض، بيِّن الجملة، واضح التفصيل، ظاهر الحدود، جيد الرصف [5]، متمكن المعنى، واسع الحيلة في تصريفه، بديع الإشارة، غريب اللمحة، ناصع البيان، ثم لا ترى فيه إحالة ولا استكراهاً، ولا ترى اضطراباً، ولا خطلاً [6]، ولا استعانة من عجز، ولا توسعاً من ضيق، ولا ضعفاً في وجه من الوجوه " [7].
وقد حق علينا أن ننظر في هذا الحديث الشريف من الناحية البلاغية، لنحاول أن نكشف بحول الله عن بعض ما تضمنه من جوانب البلاغة الراقية التي تعجز عن أن تدانيها فصاحة الفصحاء وبلاغة البلغاء.
وسوف ننهج في هذا المضمار نهج علماء البلاغة في تقسيمهم إياها إلى ثلاثة فروع: المعاني والبديع والبيان، حيث نذكر ما في الحديث من هذه العلوم الثلاثة.
أولاً:المعاني:
الأسلوب في هذا الحديث أسلوب خبري يخبر الرسول r فيه بحال الناس، ويشبههم براكبي سفينة، غير أن هذا الأسلوب الخبري قد خرج على خلاف مقتضى الظاهر، فليس المراد من الخبر هنا مجرد إفادة السامع بالخبر، ولا إفادته أن المتكلم عالم بالخبر، وإنما الغرض منه الحث وتحريك الهمة نحو القيام بواجب الأمر والنهي.
ثانياً: البديع:
في الحديث من المحسنات المعنوية: الطباق في جمعه بين (القائم) و (الواقع)، وبين: (أعلاها) و (أسفلها)، وبين: (هلكوا) و (نجوا).
والطباق هنا من نوع طباق الإيجاب، وهو الذي يُعرِّفه البلاغيون بأنه ما جُمع فيه بين الشيء وضده؛ فالقائم ضد الواقع، والأعلى ضد الأسفل، والهلكة ضد النجاة.
وليس من شك في أن هذا الطباق قد أبرز المعنى وزاده وضوحاً، فإن الضد -كما يقولون - يُظهر حسنَه الضد، ويزيد من حسنه أنه أتى في كلامه r عفواً لا يحس المرء فيه شيئاً من التكلف المذموم، فإنَّ تكلف المحسنات البديعية وتعمدها مما يفقد الكلام سلاسته ويحبس المعاني والأفكار.
ثالثاً: البيان:
اشتمل الحديث من الصور البيانية على ما يلي:
1 - الاستعارة في قوله: (القائم على حدود الله)، وهي استعارة مكنية، شبهت فيها المعاصي بوهدة من الأرض محدودة بحدود وحولها رجال يحرسونها، ويمنعون الناس من الوقوع فيها، ثم حذف المشبه به وأتى بلازمة من لوازمه وهي الحدود.
ونفس الشيء يقال في قوله: (الواقع فيها).
وهذا تعبير يوحي بمدى الهوة السحيقة التي يهوي إليها أصحاب المنكر المخالفين لأمر الله، ومدى خطورة الواجب الملقى على عاتق المصلحين في الأمة فهم حراس الفضيلة القائمون على حدود بئر الرذيلة، مانعين الناس من التساقط فيها.
¥