قال أبوحيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة: (الجزء الثالث)
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الشيخ وصل الله قولك بالصواب، وفعلك بالتوفيق، وجعل أحوالك كلها منظومةً
بالصلاح، راجعةً إلى حميد العاقبة، متألفةً بشوارد السرور، ووفر حظك من المدح والثناء،
فإنهما ألذ من الشهد والسلوى، ومد في عمرك لكسب الخير، واستدامة النعمة بالشكر؛
وجعل تلذذك باصطناع المعروف، وعرفك عواقب الإحسان إلى المستحق وغير المستحق،
حتى تكلف ببث الجميل، وتشغف بنشر الأيادي، وحتى تجد طعم الثناء، وتطرب عليه
طرب النشوان على بديع الغناء. لا طرب البرداني على غناء علوة جارية ابن علويه في
درب السلق إذا رفعت عقيرتها فغنت بأبيات السروى:
بالورد في وجنتيك من لطمك ومن سقاك المدام لم ظلمك؟
خلاك لا تستفيق من سكرٍ توسع شتماً وجفوة خدمك
معقرب الصدغ قد ثملت فما يمنع من لئم عاشقيك فمك؟
تجر فضل الإزار منحرق النعلين قد لوث الثرى قدمك
أظل من حيرةٍ ومن دهشٍ أقول لما رأيت مبتسمك
بالله يا أقحوان مضحكه على قضيب العقيق من نظمك؟
] ولا طرب ابن فهم الصوفي على غناء "نهاية" جارية ابن المغني إذا اندفعت بشدوها:
أستودع الله في بغداد لي قمرا بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعه
فإنه إذا سمع هذا منها ضرب بنفسه الأرض، وتمرغ في التراب وهاج وأزبد، وتعفر شعره؛
وهات من رجالك من يضبطه ويمسكه، ومن يجسر على الدنو منه، فإنه يعض بنابه،
ويخمش بظفره، ويركل برجله ويخرق المرقعة قطعةً، ويلطم وجهه ألف لطمة في ساعة،
ويخرج في العباءة كأنه عبد الرزاق المجنون صاحب الكيل في جيرانك بباب الطاق [/ b]. ولا طرب ابن غيلان في البزاز على ترجيعات بلور جارية ابن اليزيدي المؤلف بين الأكباد
المحرقة، والمحسن إلى القلوب المتصدعة والعيون الباكية إذا غنت.
أعط الشباب نصيبه مادمت تعذر بالشباب
وانعم بأيام الصبى واخلع عذارك في التصابي
فإنه إذا سمع هذا منها انقلبت حماليق عينيه، وسقط مغشياً عليه، وهات الكافور وماءالورد، ومن يقرأ في أذنه آية الكرسي والمعوذتين، ويرقى بهيا شراهيا.
ولا طرب أبي الوزير الصوفي القاطن في دار القطن عند جامع المدينة على قلم القضيبية إذاتناوأت في استهلالها، وتضاجرت على ضجرتها، وتذكرت شجوها الذي قد أضناهاوأنضاها، وسلبها منها وأنساها إياها. ثم اندفعت وغنت بصوتها المعروف بها.
أقول لها والصبح قد لاح نوره كما لاح ضوء البارق المتألق
شبيهك قد وافى وحان افتراقنا فهل لك في صوتٍ ورطل ٍمروق
فقالت حياتي في الذي قد ذكرته وإن كنت قد نغصته بالتفرق
ولا طرب الجراحي أبي الحسن مع قضائه في الكرخ وردائه المحشي، وكميه المفدرين ووجنتيه المتخلجتين، وكلامه الفخم، وإطراقه الدائم؛ فإنه يغمز بالحاجب إذا رأى مرطاً، وأمل أن يقبل خداً وقرطاً؛ على غناء شعلة:
لابد للمشتاق من ذكر الوطن واليأس والسلوة من بعد الحزن
وقيامته تقوم إذا سمعها ترجع في لحنها
لو أن ما تبتليني الحادثات به يلقى على الماء لم يشرب من الكدر
فهناك ترى شيبةً قد ابتلت بالدموع، وفؤاداً قد نزا إلى اللهاة، مع أسفٍ قد ثقب القلب، وأوهن الروح، وجاب الصخر، وأذاب الحديد، وهناك ترى والله أحداق الحاضرين باهتة،
ودموعهم متحدرة، وشهيقهم قد علا رحمةً له، ورقةً عليه، ومساعدةً لحاله، وهذه صورةٌ
إذا استولت على أهل مجلس وجدت لها عدوى لا تملك، وغايةً لا تدرك، لأنه قلما يخلو
إنسانٌ من صبوة أو صبابة، أو حسرةٍ على فائت، أو فكرٍ في متمني، أو خوفٍ من قطيعة،
أو رجاء لمنتظر، أو حزنٍ على حالٍ، وهذه أحوالٌ معروفة، والناس منها على جديلةٍ
معهودة.
ولا طرب ابن غسان البصري المتطبب إذا سمع ابن الرفاء يغني:
وحياة من أهوى فإني لم أكن أبداً لأحلف كاذباً بحياتها
لأحالفن عواذلي في لذتي ولأسعدن أخي على لذاته
تنبيه:
قد ضمن الشاعر المصري عبد الله فريج بعض أبيات هذه القصيدة في قصيدة له ومنها قوله:
قَد ابعَدتَني عَن الاِوطانِ مُندَحِراً مَطامِعٌ اِورَثَتني وَيلها كَدراً
وَاِذ نَأى بي النَوى قَد قُلت مُبتَدِراً اِستَودَع اللَهُ في بَغدادَ لي قَمراً
بِالكَرخ مِن فَلَك الآزار مَطلَعُهُف
َقالَ وَالوَجدُ مِنهُ كادَ يَصرَعهُ لا تَعذليهِ فَان العَذل يولِعهُ
ـ[الفهمَ الصحيحَ]ــــــــ[09 - 06 - 05, 03:14 ص]ـ
¥