ذلك الإلقاء رفق بالذي يقصد سوق الكلام إليه.
قال ابن عاشور: (وكلا الاحتمالين يلاقي قوله: ? فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ?؛ فإنه يقتضي أن المسؤول عنه مما لا يكتمه أهل الكتاب، وأنهم يشهدون به، وإنما يستقيم ذلك في القصص الموافقة لما في كتبهم؛ فإنهم لا يتحرجون من إعلانها والشهادة بها.)
ثم بيّن أن غير هذين الاحتمالين يعكر عليه بعض ما في الآية، وأن المخاطب النبي r لمكان قوله: ? مِنْ قَبْلِكَ ?، وليس المراد بضمائر الخطاب كل من يصح أن يخاطب؛ لأن قوله: ? مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ? يناكد ذلك إلا بتعسف. ([19])
وما قرره ابن عاشور يدل على أن المسؤولين هم عموم أهل الكتاب؛ وأن السؤول عنه مما لا يكتمونه، وهو القصص الموافقة لما في كتبهم، التي لا يتحرجون من إعلانها، والشهادة بها.
وقد سبق ابنَ عاشور إلى هذا التقرير الألوسي، حيث قال: (والمراد بالموصول القصص، أي: إن كنت في شك من القصص المنزلة إليك - التي من جملتها قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل - ? فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ?؛ فإن ذلك محقق عندهم، ثابت في كتبهم حسبما أنزلناه إليك. وخصت القصص بالذكر لأن الأحكام المنزلة إليه عليه الصلاة والسلام ناسخة لأحكامهم مخالفة لها؛ فلا يتصور سؤالهم عنها.) ([20])
النتيجة:
لا خلاف بين المفسرين في نفي وقوع الشك من النبي r ، وأنه لا يحتاج لسؤال أهل الكتاب حتى يتبين له صدق ما أنزله الله U إليه.
وأما الموازنة بين أقوال في المفسرين في توجيه هذا الخطاب؛ فلا شك أن ما اعتمده ابن القيم، وقاله أبوحيان وجيه، وهو أن الخطاب للنبي r . وليس في ذلك ما يدل على وقوع الشك منه؛ لأن الجملة الشرطية لا تستلزم وقوع الشرط ولا الجواب، ولا إمكان ذلك. وهذا الأسلوب يقصد منه تقرير أمور مهمة، أهمها أمران:
الأول: تثبيت الأمة المسلمة، وإعلامهم أن صفة نبيهم r موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب. كما قال ابن كثير.
الثاني: إقامة الحجة على من كذب النبي r ، وكفر بما جاء به، سواء كان من كفار العرب، أم من أهل الكتاب.
كما أن القول الذي رجحه ابن عطية، وقرّر الرزاي صحته وجيه كذلك، وهو أن الخطاب للنبي r والمراد غيره ممن يمكن أن يقع منه الشك. وهذا قول أكثر المفسرين ([21])، والشواهد على صحته كثيرة ([22]). وما ذكره بعض المفسرين من كون هذا القول لا يلتئم مع قول الله U في الآية: ? مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ? يجاب عنه بأن هذا كقول الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ? (النساء:174) ([23])، وكقوله سبحانه: ? وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? (النحل:44).
وأما المسألة الثانية؛ فما رجحه ابن القيّم وجيه، وهو موافق لعموم اللفظ. وقد بيّن الألوسي، وابن عاشور وجه هذا القول، وأنهم إنما يسألون فيما لا يكتمونه. وهذه الآية شبيهة بقول الله تعالى في الآية الأخرى: ? أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ? (الأنعام:114)
تنبيهات وفوائد:
التنبيه الأول: نوع الخلاف وثمرته:
الخلاف بين الأقوال السابقة في تفسير هذه الآية منه ما هو خلاف تنوع، ومنه ما هو خلاف تضاد. فالخلاف بين القولين الأول والثالث خلاف تضاد، والخلاف بين بقية الأقوال خلاف تنوع؛ لأنه لا تعارض بينها في الجملة
وثمرة هذا الخلاف: التوكيد على رفع توهم وقوع الشك من النبي r ، وتكثير الوجوه الدالة على ذلك.
التنبيه الثاني: سبب الخلاف:
سبب الخلاف في المسألة الأولى هو توهم البعض أن ظاهر الآية يدل على وقوع الشك من النبي r ؛ ولما كان الواقع خلاف هذا التوهم تنوعت أقوال المفسرين في توجيه الخطاب، وحصل الخلاف بينهم في ذلك.
¥