[مكاتب التحقيق والجناية على كتب التراث، للشيخ الطريفي]
ـ[عبدالله المزروع]ــــــــ[13 - 08 - 06, 05:33 م]ـ
مكاتب التحقيق والجناية على كتب التراث
مسند الطيالسي بين تحقيق التركي وسرقة (المشهور)!
الحديث في معنى ما أقصده هنا له ذيول وشعب، وهو مسلك يرفع أقواماً ويضع، ونحن في عصر أصبح التأليف فيه تجارة وحرفة من الحرف، يكسب بها العيش، ويدفع بها الفقر، ومن اتخذ من التحقيق زاداً وعيشاً أدركه الجوع، فهل سيتخذ من عام الرمادة حجة! وهذا يتنافى مع سلامة النية بالجملة، ولما كان الأمر كذلك تنافس في التكاثر به من ينتسب للتحقيق والعلم، فظهر الخلل والخلط حتى طفح الكيل، واختلط على كثير من طلاب العلم معرفة الجيد من الرديء والصحيح من السقيم، وحينما يكون كسب المرء من هذه الكتب تحقيقاً وتأليفاً، تجده في الغالب يخرج المفيد وغيره دون تمييز، وإن صاحب ذلك ضعف أمانة وديانة، فسلخ الكتب وسرقتها باب لمن لا باب له، وهذا النوع - من فاقدي الأمانة - ما أقصده هنا، وقد تنوعت طرائق السالكين له بين محترف حاذق يدب في ضراء ويمشي في حمر، بين أعمى يمشي في عراء، ويظن ألا يرى، وبين أولئك أقوام يتفاوتون فمستقبل ومستكثر، وبالجملة فأمثال هذه الصنوف غير خافية عند أهل المعرفة والنقد، وهؤلاء كمن يكتب ويحقق وينشر زوراً، ويظن أنه في ستر، فهو وإن حرك في تلفيقه سلسلة الإعجاز، في عراء ممقوت، يرجع البصر عنه حسيراً، ولكن ليس في قوس الناقدين مترع له ولأمثاله، باعتبار ضيق العمرعن تقسيمه بين تكاليف الآخرة والدنيا، ولكن الله حسبنا ونعم الوكيل.
والناس في نظرهم في تحقيقات المعاصرين، متفاوتون، ويتجاذبهم إحسان الظن، والغلو في النقد، وردع الظالم، وحظوظ النفس، والمنصفون قليل ما هم، ومنهم - وهم أقل - من يرى أنه السلم إلى معرفة العلوم، فهو رحم العلم وغيره القابلة، فلا يرى إلا ما هو مدلول عليه بفكره، فقوله وكتبه يحوج الخطيب المصقع والشاعر المفلق والكاتب المتفنن إلى إدماجه وإدراجه في أثناء متصرفاته وما يكتب، فلم يبق في قوس الاحسان مترعاً ولسان حاله: - (أنا ترب الندى ورب القوافي)
وعلى الكاتب الباحث ألا يضني نفسه (فهو وماله لأبيه).
وما أريد قوله هنا أن ما لا يحسن السكوت عنه بحال: الاستهانة بالنقدة وأهل المعرفة في سرقة الكتب وتشويهها، من قبل من لا يقيم للأمانة في نفسه وزناً، من دور النشر ومن يقتات منها ممن يزعمون التحقيق أو التصنيف، وذلك بالعبث بكتب السنة التي هي الوحي الثاني، ومن ذلك ما رأيته من عمل في (مسند أبي داود الطيالسي).
وهذا المسند من عوالي المسانيد وأنفسها، ويكفي أنه انفرد بمسانيد صحابة لم يخرج لهم الإمام أحمد في مسنده مع سعة استيعابه، كثعلبة بن زهدم وثعلبة بن الحكم وبشر بن الحزن وغيرهم.
وهو من المسانيد العالية ففيه ثلاثيات وأكثره رباعيات، مع نقاوة لأسانيده، وكنت كثير النظر فيه، عناية برجاله، وحفظاً لزوائده، فهو زاد لكل حديثي.
وقد كان بين يدي طبعة (دائرة المعارف النظامية) الهندية، وهي على علاتها جيدة، ثم ظهر بعد ذلك عام 1419ه طبعة حديثة بتحقيق الشيخ د. محمد بن عبد المحسن التركي. (نشر دار هجر بمصر)، فكانت هذه الطبعة صباحاً أطفأ المصباح، ظهر فيها الجهد والسهر، ومثل هذا العمل جدير أن يوصف ب (التحقيق)، وهذا وإن كان كذلك إلا أني آخذ عليه ما ليس هذا مقام ذكره.
ثم بعد عدة سنوات قامت (دار الكتب العلمية) في بيروت بإخراج طبعة مسند أبي داود الطيالسي في ثلاث مجلدات كتبوا على غلافها الخارجي (تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل، وزادوا - في الداخل في تعريفه: (الشافعي الشيخ القاهري المصري الشهير ب (محمد فارس).
وقلبتها وقرأت فيها فرأيت طبعة هجر ماثلة أمامي وعليها حلة زور، ورأيت كاذباً لا يحسن الكذب، ومدلساً لا يحسن التدليس، وأعمى يدب في عراء، في جرأة عجيبة، واستهانة بأهل العلم والنظر، إذ قام بسلخ طبعة هجر بتمامها مع اختصار مخل في مواضع عديدة.
والسرقة واضحة جلية لا تحتاج إلى كبير عناء لإدراكها فهم لم يقابلوا على نسخ، وإنما هو أخذ لسابقتها بقدها وقديدها ونقل للتخاريج مع المتابعة حتى في حال خطأ الطباعة أو العزو.
¥