تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[رسالة لم يحملها البريد]

ـ[أبو تميم المصري]ــــــــ[01 - 04 - 06, 03:48 ص]ـ

جائتني على البريد اليوم رسالة من محب للخير وذكر فيها بعض الروابط لكي اقرأها من منتدى البحوث والدراسات القرآنية. فدخلت هذه الروابط وشدتني كثيرا إحدى هذه الروابط بل اقول لقد تأثرت كثيرا بها وذكرتني بالدنيا على وجهها الحقيقي فجزى الله من ارسلها لي خير جزاء وها انا انقلها اليكم لعلها تنفع احد اخواننا .....

((رسائل لم يحملها البريد

بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

شقيقي الراحل:

لقد باعد الموت ما بيننا، أمَّا أنا فلا أزال في الأحياء، أدِبُّ فوق الثرى إلى أجل مسمى يعلمه الله، وأمَّا أنت فقد اعتبطت الموت، وارتحل بك إلى الدار الآخرة، تواريت تحت التراب تنتظر يوم الحساب.

كان ذلك في ليلة مكفهرة عابسة في أعجاز الخريف، قد امتلأت آفاقها بالسحب، فلم يطلع لها نجم، ولا أضاء فيها قمر، وكانت الأرض قد صوح نبتها، ومات عودها، وأصبح ما على وجهها هشيماً تذروه الرياح.

كانت السماء تبكي في تلك الليلة، كانت تبكي على الأرض، لتطفئ ظمأها، وتحيي هشيمها، وتكسوها حلة قشيبة موشاة تميس فيها لآذار ونيسان.

وكانت السماء تبكي عليك في تلك الليلة، وأنت من فوق ألواح الخشب على ظهر الشاحنة الكبيرة الصاعد في سفوح وادي الموجب، ذلك الوادي السحيق العميق الذي تزوغ في أحشائه الأبصار.

لقد كان مقعدك إلى جوار السائق دافئاً أميناً، بعيداً عن الخطر والمطر والبرد والعواصف، فلِمَ غادرته لتمطي الأمواج وتكافح الرياح، وتتلقى الماء المنهمر؟! ما الذي كان يدعوك إلى أن تركب هذا المركب الخشن؟! ولِمَ حمَّلت نفسك تلك الصعاب، وأذقتها ذلك العذاب؟!

نعم، لقد كنت أميناً عند الناس وعند الوزارة، فخشيت أن تسّاقط ألواح الخشب في سواد الليل البهيم وأنت لا تدري، فتساقط معها أمانتك التي كنت حريصاً عليها كل الحرص، وفيّاً لها كل الوفاء.

والتَوَت الطريق على الشاحنة الكبيرة، وخرج بها عن الجادة ظلمات الليل، وتتابع الودق، وسوء خلق السائق، فألقت بنفسها وبمن فيها وما عليها على الأرض، كما يلقي المتعب الواهن بنفسه إذا ناء كاهله بما يحمل، ولم تقوَ ساقاه على طول الطريق.

وقفزت من على الشاحنة تريد النجاة من الموت، ولكن الموت كان يترصدك على أسنة الصخور الحادة التي كسرت أعظمك، وأسالت دمك، وتركتك لقي على الأرض، لا ترى من حولك أُمّاً ترسل الدمع، ولا إلى جانبك أخاً يتوجع، ولا على مقربة منك عابر سبيل يحمل الوصية.

كنت أنا في مدينة الرياض بعيداً عنك مئات الأميال، وجاءني ورقة صغيرة فيها كلمات تسمى (برقية)، تسلمتها في صباح يوم من أيام التدريس، تسلمتها على قلق، وقرأتها عجلان في لهفة، فإذا هي تنعاك إليّ، قرأتها مرة بعد مرة بعد مرة، وفي كل مرة كأني لم أقرأها من قبل، يا لله للمصائب المفاجئة! كأنما اتخذت عند الرحمن عهداً ألا تسبقني إلى الموت.

قرع الجرس، وجاء موعد الدرس، فطويت الورقة الحزينة، وأسكنتها جيبي في غير سكينة، ودخلت غرفة التدريس … لقد مضى على ذلك سبعة عشر خريفاً، وإني لأذكر اليوم كأنما كان الساعة. كان درساً في تاريخ الأدب عن ابن تيمية رحمه الله، وألمت بي في أثناء الإلقاء فترات صمت وذهول وشرود، ولكن الطلاب كانوا يحسنون الظن بي، فظنوا أني أتذكر معلومات نسيت، وأتصيد أفكاراً ندّت! وانتهت الحصة، وعدت إلى البيت، فقال أهله: ماذا هناك؟! فقلت لهم ما كان هنالك، فكان صمت، وكان تجهم ووجوم.

ومضت الساعات والأيام والليالي والأشهر، مضت بطيئة الخطو، ثقيلة العبء، مرَّة المذاق، أعاني فيها فقدك، وأعاني فيها مرض السكر الذي كنت لا أدريه.

ثم … ثم بعد طول عذاب وطول غياب يجيء يوم العودة، ويعود المدرسون إلى أهليهم وذويهم بعد فراق تسعة أشهر.

وكان العائدون في مطار الرياض يتحركون بخفة ورشاقة، وكانوا يتكلمون ببشر وطلاقة، كأنما هم عصافير الصباح.

أما أخوك فكان يتكلم، ولكنه لم يكن بليل الريق، وكان يتحرك، ولكن بغير جناح.

كان العائدون في مطار الرياض يمدون بأبصارهم وخيالهم بعيداً بعيداً، إلى أرض الوطن، فيرون على أرض مطاره، وعلى أبواب دياره، وفي أفنية المنازل، يرون وجوهاً ضاحكة مستبشرة، تفتح الأذرع، وتمد الأعناق.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير