قالوا: الذي لا ولد له. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليس ذاكم بالرقوب، الرقوب الذي يقدم على ربه ولم يقدم أحدا من ولده
عمدة القارى
أما الرقوب فبفتح الراء وتخفيف القاف، والصرعة بضم الصاد وفتح الراء وأصله في كلام العرب الذي يصرع الناس كثيراً، وأصل الرقوب في كلام العرب الذي لا يعيش له ولد، ومعنى الحديث أنكم تعتقدون أن الرقوب المحزون هو المصاب بموت أولاده وليس هو كذلك شرعاً بل هو من لم يمت أحد من أولاده في حياته فيحتسبه يكتب له ثواب مصيبته به وثواب صبره عليه ويكون له فرطاً وسلفاً، وكذلك تعتقدون أن الصرعة الممدوح القوي الفاضل هو القوي الذي لا يصرعه الرجال بل يصرعهم وليس هو كذلك شرعاً بل هو من يملك نفسه عند الغضب، فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قل من يقدر على التخلق بخلقه ومشاركته في فضيلته بخلاف الأول،
وفي الحديث فضل موت الأولاد والصبر عليهم، ويتضمن الدلالة لمذهب من يقول بتفضيل التزوج وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحابنا وسبقت المسألة في النكاح، وفيه كظم الغيظ وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار والمخاصمة والمنازعة.
قوله صلى الله عليه وسلم في الذي اشتد غضبه: «إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فيه أن الغضب في غير الله تعالى من نزغ الشيطان، وأنه ينبغي لصاحب الغضب أن يستعيذ فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأنه سبب لزوال الغضب.
وأما قول هذا الرجل الذي اشتد غضبه هل ترى بي من جنون فهو كلام من لم يفقه في دين الله تعالى ولم يتهذب بأنوار الشريعة المكرمة، وتوهم أن الإستعاذة مختصة بالمجنون ولم يعلم أن الغضب من نزغات الشيطان، ولهذا يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله ويتكلم بالباطل ويفعل المذموم وينوي الحقد والبغض وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب،
شرح النووي على صحيح مسلم
من فقه البخارى: أنه بوب هذا الباب قوله (باب ما قدم من ماله فهو له) ثم عقبه بهذا الحديث" ما تعدون الرقوب فيكم "
الذى يملك نفسه عند الغضب علامة على سيطرته على نفسه من الوقوع فى المعصية) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى:37)
فَإِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ لَمْ يَقُلْ بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلاقِ الْغَضْبَانِ مُطْلَقًا, بَلْ أَفْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِرِسَالَةٍ سَمَّاهَا " إغَاثَةَ اللَّهْفَانِ فِي حُكْمِ طَلاقِ الْغَضْبَانِ " وَفَصَّلَ فِيهَا, فَقَالَ: الْغَضَبُ ثَلاثَةُ أَقَسَامً:
أَحَدُهَا: أَنْ يَحْصُلَ لِلإِنْسَانِ مَبَادِئُهُ وَأَوَائِلُهُ بِحَيْثُ لا يَتَغَيَّرُ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَلا ذِهْنُهُ, وَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ, وَيَقْصِدُهُ ; فَهَذَا الإِشْكَالُ فِي وُقُوعِ طَلاقِهِ وَعِتْقِهِ وَصِحَّةِ عُقُودِهِ, وَلا سِيَّمَا إذَا وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ بَعْدَ تَرَدُّدِ فِكْرِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَبْلُغَ بِهِ الْغَضَبُ نِهَايَتَهُ بِحَيْثُ يَنْغَلِقُ عَلَيْهِ بَابُ الْعِلْمِ وَالإِرَادَةِ ; فَلا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَلا يُرِيدُهُ, فَهَذَا لا يَتَوَجَّهُ خِلافٌ فِي عَدَمِ وُقُوعِ طَلاقِهِ, وَالْغَضَبُ غُفُولُ الْعَقْلِ, فَإِذَا اغْتَالَ الْغَضَبُ عَقْلَهُ حَتَّى لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ فَلا رَيْبَ أَنَّهُ لا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ, فَإِنَّ أَقْوَالَ الْمُكَلَّفِ إنَّمَا تَنْفُذُ مَعَ عِلْمِ الْقَائِلِ بِصُدُورِهَا مِنْهُ وَمَعْنَاهَا وَإِرَادَتِهِ لِلتَّكَلُّمِ, فَالأَوَّلُ يَخْرُجُ مِنْ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُبَرْسَمِ وَالْغَضْبَانِ, وَالثَّانِي يَخْرُجُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ بِاللَّفْظِ وَهُوَ لا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ أَلْبَتَّةَ, وَهُوَ لا يَلْزَمُ مُقْتَضَاهُ,
¥