والتفكر في هذه الحقيقة الإلهية، وتتبع شواهدها في التاريخ والواقع: من أعظم الحوافز التي تدعو إلى التمسك بالهداية، والتشبث بأسبابها، والحذر من عوامل سلبها، فالذي يعلم أنه بالتوبة الأولى قد التحق بالموكب الكريم من المؤمنين الصالحين، وانتمى إلى الصفوة المختارة من عباد الله يتقدمهم الأنبياء والمرسلون: يعمل أقصى جهده ليتبوأ أفضل مقعد في هذا الموكب، ويأخذ أحسن موقع في هذا الصف، ولا يزال يجاهد نفسه ويحملها على الأحسن والأصوب، وحتى يدرك من المراتب ما لا يشاركه فيه إلا القليل من الناس.
وأي شيء يهدده في هذه النعمة، ويحرمه من هذه المعية الطيبة وهذا الجوار المقدس: يبعد عنه ويحذر منه.
هذا الشعور بالاصطفاء الذي يبدأ في القلب عقب التوبة الأولى، ويزداد ويعظم بالتوبة الثانية: هو الذي يهون على النفس سائر المعاصي مهما تكن جاذبيتها؛ لأنه عندما يضع تلك اللذات في كفة، ويضع هذا الاصطفاء في كفة، ويكون ذا عقل ورأي: لا يرجح إلا الثاني، ولا يأنس إلا به، وكيف لا يأنس وقد وجد الطريق ووجد الرفيق؟!.
الحافز السادس: التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
إن التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوق أنه فرض واجب، فهو من أعظم الحوافز التي تدعو المسلم إلى تجديد إسلامه باستمرار.
والتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس عمل يوم أو ليلة، ولكنه عمل كل يوم وكل ليلة حتى الوفاة، فقد جمع الله (عز وجل) الكمالات البشرية في نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وزكى سيرته من فوق سبع سماوات لتكون قدوة للناس، فكل مسلم مأمور أن يدرس هذه السيرة بنيّة التأسي والاتباع، قال الله (تعالى): ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب: 21].
ومن اكتشف هذا المعِين: لزمه، واستقى منه، ومنع أي مصدر آخر أن يشوش عليه، وكيف يترك المقطوع به للمظنون، والمعصوم لغير المعصوم؟!.
وما دام المسلم يرى في سلوكه بدعاً ومحدثات وذنوباً وآثاماً، فإنه يشعر بالنقص الحاصل في امتثاله للآية السابقة، فيزداد اقتراباً من سيرة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، جاعلاً الغاية التي يشمر إليها والشعار الذي يسعى نحوه: الأخذ بكل ما كان يفعله نبيه، والإقلاع عن كل ما كان يتركه.
إن الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلاته، وصيامه، وحجه، وذكره، وطهوره، ودعوته، وفي شأنه كله: حافز من حوافز التوبة الثانية التي تمتد سائر العمر.
وإذا علم المسلم أن النبي نفسه ـ وهو المعصوم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ـ قد أُمر بالتوبة والاستغفار في عدة آيات، آخرها عند فتح مكة لما قال الله (تعالى) له: ((إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً)) [النصر: 1 3].
ماذا يكون حال غيره ممن لا يدري بَعْدُ مصيره، وفي الحديث الذي رواه مسلم يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:» يا أيها الناس: توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مئة مرة «.
الحافز السابع: الاقتداء بالسلف الصالح:
الاقتداء بالسلف الصالح فرع عن الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والسلف الصالح هم القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالخيرية ثم جميع الذين يشبهونهم في الفهم والتطبيق، كيفما كان عصرهم، وكيفما كان بلدهم.
السلفية اتجاه في فهم الإسلام والعمل به، والسلف هم الذين تحققوا بمقومات هذا الاتجاه في كل عصر، الأمثل فالأمثل، وفي حديث العرباض بن سارية (رضي الله عنه)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:» أوصيكم بتقوى الله .... فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة «(1).
فذكر سنته، ثم ذكر سنة الخلفاء الراشدين بعده؛ لأنها امتداد لسنته، فقد كانوا (رضي الله عنهم) أشبه الناس به في صلاته وقضائه وجهاده وفي هديه كله، ثم يأتي بعدهم التابعون لهم بإحسان في كل جيل.
¥