فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد اعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة، على طريقة الموسيقى والأشعار، التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس، المجبول محبته فيها، بآلات اللهو المطربة، المخرج سماعها عن الاعتدال، فحينئذٍ أنكر الصحابة الغناء واستماعه، ونهوا عنه، وغلظوا فيه.
حتى قال ابن مسعود - _ -: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وروي عنه مرفوعاً. ()
وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي رخص فيه النبي- صلى الله عليه وسلم – لأصحابه لم يكن هذا الغناء، ولا آلاته هي هذه الآلات، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده، مما يتعارفه العرب بآلاتهم.
فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة، وإنْ سمي غناء، وسميته آلاته دفوفاً فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى، ويغير الطباع، ويدعو إلى المعاصي، فهو رقية الزنا ().
وغناء الأعراب المرخص فيه، ليس فيه شيءٌ من هذه المفاسد بالكلية البتة، فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظاً و لا معنى؛ فإنه ليس هنالك نصٌ عن الشارع بإباحة ما يسمى غناء ولا دفاً، وإنما هي قضايا أعيان، وقع الإقرار عليها، وليس لها من عموم.
وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء الأعاجم ودفوفها المصلصة؛ لأن غناءهم ودفوفهم تحرك الطباع وتهيجها إلى المحرمات، بخلاف غناء الأعراب، فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ، وقاس مع ظهور الفارق بين الفرع والأصل، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب " أ. هـ ()
إذاً فالغناء الذي كان في عهد النبي - ‘ – هو الغناء البدائي من الحداء والنصب من غير آلات طرب ومعازف، أو مع البدائي منها كالدف والمزمار.
ومع هذا فقد كان مستقراً عند الصحابة أن الدف والمزمار من لهو الشيطان وأنه باطل يصد عن سبيل الله كما قال أبو بكر - _ - حينما دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جاريتان، تغنيان بغناء الأنصار يوم بُعَاث، والنبي صلى الله عليه وسلم متغَشٍّ بثوبه، فانتهرهما وقال: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله - ‘ -؟!.
فكشف النبي - ‘ - عن وجهه فقال: دعهما إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا، فلما غفل غمزتهما فخرجتا " ().
قال ابن رجب – ’ -: " وفي الحديث ما يدل على تحريمه في غير أيام العيد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم – علل بأنها أيام عيد، فدل على أن المقتضي للمنع قائمٌ، لكن عارضه معارضٌ وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد.
وقد أقر أبا بكر على تسمية الدف مزمار الشيطان، وهذا يدل على وجود المقتضي لولا وجود المانع " أ. هـ المراد من كلامه ().
وكذلك عمر – _ -: " كان إذا استمع صوتاً أنكره وسأل عنه، فإن قيل: عرسٌ أو ختان، أقره " أخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، و البيهقي ().
وكذلك كان بقية أصحاب رسول الله - ‘ -، فعن عامر بن سعد البجلي قال: " دخلت على أبي مسعود، وقرظة بن كعب، وثابت بن يزيد - رضي الله عنهم - وجوار يضربن بدفٍ لهن، ويغنين، فقلت: تقرون هذا وأنتم أصحاب رسول الله - ‘ -؟
قالوا: أنه رخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت في غير نوح " أخرجه الطيالسي، وابن أبي شيبة، والنسائي وغيرهم.
وهذا هو الذي يتوافق مع الأحاديث التي جاء فيها تنظيم الغناء، وضبطه بالضوابط الشرعية، كالأحاديث التي جاء فيها الرخصة بإباحة الغناء بالدفوف للجواري في العيد، والأعراس، والختان، وعند قدوم الغائب.
النقطة الثالثة: المرحلة التي مر بها الغناء بعد مجيء الإسلام.
والمراد بهذه المرحلة هو الحديث عن التطورات التي طرأت على الغناء الذي كان معروفاً عند الصحابة في جاهليتهم، وفي صدر الإسلام.
وبيان ذلك أن المسلمين وبعد انفتاح بلاد فارس والروم وما استولوا عليه من الممالك رأوا من أنواع الغناء وآلاته ومعازفه ما لا معرفة لهم به من قبل، فظهرت مواقف عديدة من الصحابة متمثلة في إنكارهم ما رأوه من أنواع الغناء وآلاته ومعازفه، وأنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.
ثم ما لبث الحال حتى انخرط عدد من المغنيين من الفرس والروم في المسلمين وأصبحوا موالي للعرب في الحجاز وغيرها فخلطوا غناءهم بغناء العرب، ولحنوه بألحانهم، وضربوا عليه بآلاتهم ومعازفهم.
ثم ما لبث الحال أيضاً حتى دخل الغناء بلاط الحكم عند بعض الأمراء والولاة ().
واستمر الوضع على هذا الحال مع ما يكون عادة من التطور والتفنن عبر الزمان حتى كان آخر المائة الثانية فحدثت بدعة السماع عند الصوفية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -’-: " فاعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة لا بالحجاز، ولا بالشام، و لا باليمن، ولا بمصر، ولا المغرب، ولا العراق، ولا خراسان، من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية، لا بدف، ولا بكف، ولا بقضيب، وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية، فلما رآه الأئمة أنكروه " ().
¥