وأما المسائل الخلافية فهي التي قام الدليل عليها من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس ظاهر جلي، فهذا النوع لا تسع المخالفة فيه لأحد من الناس كائناً من كان وهذا هو الذي جرى عليه عمل الصحابة ومن تبعهم من السلف حيث كثر إنكار بعضهم على بعض في مثل هذه المسائل ().
وقد بوّب ابن عبد البر لهذا المسألة في كتابه الماتع: " جامع بيان العلم وفضله " (2/ 913) باب: " ذكر الدليل من أقاويل السلف على أن الاختلاف خطأ وصواب يُلزم طالب الحجة عنده، وذكر بعض ما خطّأ فيه بعضهم بعضاً وأنكره بعضهم على بعض عند اختلافهم ... " فذكر جملة وافرة من إنكار السلف بعضهم على بعض ().
و يقول الإمام الشافعي في بيان أنواع المسائل التي حصل فيها خلافٌ والفرق بينهما: " ... قلت الاختلاف وجهان، فما كان لله فيه نص حكم، أو لرسوله سنة، أو للمسلمين فيه إجماع لم يسع أحداً علم من هذا واحداً أن يخالفه، وما لم يكن فيه من هذا واحد كان لأهل العلم الاجتهاد فيه بطلب الشبهة () بأحد هذه الوجوه الثلاثة، فإذا اجتهد من له أن يجتهد وَسِعَهُ أن يقول بما وجد الدلالة عليه، بأن يكون في معنى كتاب، أو سنة، أو إجماع.
فإن ورد أمر مشتبه يحتمل حكمين مختلفين فاجتهد، فخالف اجتهاده اجتهاد غيره، وسعه أن يقول بشيء وغيره بخلافه، وهذا قليل إذا نظر فيه ... " ().
ثم أخذ يستدل لهذا التأصيل من الكتاب والسنة والإجماع، فانظره إن رمت ذلك في موضعه.
وتلخيصاً لما سبق أذكر أهم الفوارق بين المسائل الخلافية والمسائل الاجتهادية:
1 – أن المسائل الخلافية هي التي جاء فيها نصٌ من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس واضح جلي.
أما المسائل الاجتهادية فهي نوعان:
النوع الأول: مسائل فيها دليل ولكنه إما محتمل لوجهين أو أكثر من غير مرجحٍ قاطع، أو يكون الدليل حديثاً مختلفاً في ثبوته والاستدلال به.
النوع الثاني: مسائل لا نص فيها بعينها من كتاب أو سنة وهي تتأرجح بين أصلين أو أكثر من أصول الشريعة.
2 – أن المخالفة في المسائل الخلافية مذمومة لظهور الحكم فيها، ولما فيها من معارضة الشريعة بالآراء.
أما المخالفة في المسائل الاجتهادية فلا يلحقها مذمة مالم يكن فيها إتباعٌ للأهواء، أو العقول، أو التشهي.
3 – أن من علم بالحجة والدليل في المسائل الخلافية ثم لم ينقد إليها يكون مخطأً يجب عليه الرجوع عن خطئه.
أما من لم يتبين له وجه الحق في المسائل الاجتهادية فلا يلزمه الرجوع والانصياع.
4 - أن المخالف في المسائل الخلافية يعتبر مخطأ ويوصف بأنه مخطئ، ويجب بيان خطئه وكشفه كما هو صنيع السلف، وقد يوصف بأكبر من وصفه بالخطأ حسب ما يحتف بالمسألة من أحوال، وعلى حسب حجم المخالفة.
أما المخالف في المسائل الاجتهادية فلا يعد مخطأً بل يعد مجتهداً حاز أجراً وفاته آخر.
5 – أن الحكم في المسائل الخلافية الذي وافق الدليل القاطع يعد علماً يقينياً ويعد مقابله جهل وخطأ.
أما الحكم في المسائل الاجتهادية فيعد ظنياً في كلا الجانبين.
إذا تبين لك هذا علمت أن الخلاف في مسألة الغناء من الخلاف المذموم، وأن المؤلف قد خلط في الفرق بين المسائل الخلافية، وبين المسائل الاجتهادية وبيان هذا من عدة وجوه:
الوجه الأول:
أنه قال ص 10: " قضية (الغناء والموسيقى) – موضوع هذا البحث – قضية خلافية .. " فهو هنا اعتبرها من المسائل الخلافية.
ثم قال في السطر السادس من نفس الصفحة: " وغاية الحسن من المجتهد في هذا المقام .. " وهنا اعتبر الناظر في هذه المسألة مجتهد ومعلومٌ أن الاجتهاد لا يكون إلا في المسائل الاجتهادية.
الوجه الثاني:
حين قال: " والبحث العلمي يثبت أن الخلاف في مثلها معقول مقبول، لا يوجب حكماً لمخالف على مخالفه "
قلت: بل الصواب أن البحث العلمي يثبت أن الخلاف في مسألة الغناء والموسيقى غير معقول ولا مقبول، إذ كيف يعقل أو يقبل رد النصوص الواضحة الدلالة على تحريم الغناء بالمعازف، وآلات اللهو، والتمسك بالمتشابه من الوقائع العينية ونحوها؟
و كيف يعقل أو يقبل تأويل هذه النصوص الواضحة، والانسياق وراء تأويلات في غاية الضعف، والسقوط؟
و كيف يعقل أو يقبل رد ما عليه الإجماع في بعض ذيول هذه المسألة، بدعوى عدم حجيته؟
¥