تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولذلك حينما زالت الدولة الفاطمية الإسماعيلية تحول الكثير من الإسماعيلية إلى شيعة إمامية، لأن الإمامية كانت أكثر طوائف الشيعة –بعد الزيدية- قبولا لدى أهل السنة في عصره وبعد عصره، حتى رسم ابن تيمية ومدرستُه حدودا جديدة وبنوا أسوارا عالية بين الإمامية والسنة.

وقد كان الشيعة الإمامية -وهم غالبية سكان دمشق وحلب أيام الصليبيين حسب تقديرات الرحالة ابن جبير وغيره- موالين لصلاح الدين وجزءا لا يتجزأ من جيوشه، على عكس ما تقدمه الروايات السلفية اليوم.

ويكفي أن نعرف أن من أول كتَّاب سيرة صلاح الدين المؤرخ الشيعي يحي بن أبي طي الحلبي، وهو رجل شديد الولاء للأسرة الأيوبية، كما تدل على ذلك النصوص التي وصلتنا من كتابه مقتبسة في كتب أبي شامة وغيره.

ثم إن صلاح الدين لم يقاتل الشيعة بسبب تشيعهم، ولا تجنب قتال السنة بسبب تسننهم، فقد كان الرجل عمليا ومنصفا يؤاخذ الناس بالفعل لا بالمذهب، ويقدر الإخلاص للأمة والولاء لها أكثر مما يقدر التنطعات الكلامية والفقهية.

وقد عمل وزيرا للخليفة الفاطمي، كما قاتل أبناء نور الدين زنكي وأبناء أخيه سبع سنين –وهم سنة- سعيا لتوحيد الشام مع مصر في وجه الصليبيين.

ونجد أشد مؤرخي ذلك العصر انتقادا لصلاح الدين مؤرخ سني، وهو ابن الأثير الذي كان مواليا للزنكيين في الموصل وحلب حينما كان صلاح الدين يقاتلهم.

وكان عمارة اليمني الفقيه الشاعر السنّي هو الذي قاد المحاولة الانقلابية على صلاح الدين من أجل استرداد الدولة الفاطمية الشيعية. وكانت دوافع عمارة النفعية قد غلبت انتماءه المذهبي –كما هو حال الكثيرين في كل عصر- وقد عبر عن ذلك في شعره من مثل قوله يمدح الفاطميين:

وزرت ملوك النِّيل أرتاد نَيْلهم ... فأحمدَ مرتادي وأخصب مرتعي

مذاهبهم في الجود مذهب سنةٍ ... وإن خالفوني في اعتقاد التشيعِ

ولم يكن عمارة يهتم بتشيع أو تسنن بقدر ما كان يحن إلى عطايا الفاطميين التي اعتادها، ولم يكن يهمه الانشقاق التاريخي الذي بدأ منذ حرب الجمل وصفين، بقدر ما تهمه ليالي السمر المترفة في قصور الفاطميين.

وهو القائل:

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمةٍ ... لك الملامة إن قصَّرتَ في عذلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لا على صِفِّينَ والجملِ

* خلل القراءة الشيعية

أما القراءة الشيعية السائدة اليوم لسيرة صلاح الدين، واتهامه بالغدر والموالاة للصليبيين –كما عبر عن ذلك حسن الأمين في كتابه- فالخلل فيها أوضح من الشمس في رابعة النهار.

أولا: على عكس بعض الحكام الذين سبقوه، مثل نور الدين زنكي، لم يضطهد صلاح الدين الشيعة، بل سعى إلى احتوائهم باعتبارهم إخوة في المعتقد رغم خلاف المذهب، ودمَجهم في جهده العسكري ضد الصليبيين.

وهذا ما يفسر ثناء المؤرخ الشيعي ابن أبي طي على صلاح الدين وتأليفه كتابا في سيرته. فوالد ابن أبي طي –وهو من فقهاء الشيعة وقادتهم- تم نفيه وأسرته من مدينتهم حلب على يدي نور الدين حتى جاء صلاح الدين ورفع الظلم عنهم. أما إطاحة صلاح الدين بالدولة الفاطمية فلم تكن دوافعه طائفية، إذ قد أطاح بدويلات سنية كثيرة في الشام والعراق سعيا لتوحيد الكلمة والجهد.

وحينما قرر صلاح الدين وضع حد للحكم الفاطمي في مصر، لم يقتل الخلفية الفاطمي العاضد –كما هو العرف السائد في ذلك العصر المليء بالاغتيالات السياسية- بل تدرج وانتظر موت العاضد ميتة طبيعية. وحينما مات العاضد "جلس السلطان (صلاح الدين) للعزاء، وأغرب في الحزن والبكاء، وبلغ الغاية في إجمال أمره، والتوديع له إلى قبره" كما يقول ابن شداد.

ثانيا: أما اتهام حسن الأمين صلاح الدين بموالاة الصليبيين والتنازل لهم عن الأرض اختيارا في صلح الرملة فسخف لا معنى له، وهو قول من لا يعرف –ولا يريد أن يعرف- الحالة العسكرية للطرفين المتحاربين في الحملة الصليبية الثالثة.

ويكفي أن نقول هنا إن المؤرخين الصليبيين في الماضي والمستشرقين الغربيين اليوم أكثر نزاهة في رؤيتهم لصلاح الدين من حسن الأمين.

فالمؤرخ القسيس وليم الصوري الذي عاصر تلك الأحداث يثني على شجاعة صلاح الدين ونبله وسخائه، رغم أن كلماته تقطر حسرة على استرداد صلاح الدين للقدس.

والمستشرقون اليوم أكثر اعترافا بمناقب صلاح الدين، ومنهم هاملتون جيب في كتابه "حياة صلاح الدين" وجيفري هيندلي في كتابه "صلاح الدين" وآندرو أهرنكريتز في كتابه "صلاح الدين".

إن الذاكرة الاجتماعية هي أساس الهوية في كل أمة، والذاكرة الاجتماعية المشوشة تنتج هوية مشوشة وأمة في حرب مع ذاتها. وليست القراءات السلفية والشيعية لسيرة صلاح الدين الأيوبي إلا مثالا واحدا من أمثلة كثيرة على هذا التشويش والتمزق الذي نعيشه اليوم.

ويحاول الآن بعض أهل الرأي والقلم من السنة والشيعة، مثل الأستاذ أحمد الكاتب من العراق ود. محمد الأحمري من السعودية، تقديم مراجعات لتصحيح هذا الخلل في التفكير التاريخي الذي يقود أمتنا إلى الانتحار. فهل نبذل جهدا أكبر في ترميم ذاكرتنا الاجتماعية وإعادة بنائها على الحقائق التاريخية لا على الأوهام الطائفية؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير