ولن نقول أنه ثأر للمسلمين وأرغم أنف الملك الهندوسي " داهر " وقتله وهز ملكه فانفتحت له بلاد السند على مصراعيها
ولن نبالغ إن قلنا أنه بعد مقتل 'داهر' واصل محمد بن القاسم سيره ليحقق الهدف الأكبر والأبعد ففتح مدينة 'راور' ثم 'رهماناباذ' ثم استسلم إقليم 'ساوندرى' وأعلنوا إسلامهم ثم 'سمند' ثم فتح محمد بن القاسم مدينة 'الملتان' وذلك بعد قتال عنيف إذ كانت معقل البوذية بالسند وغنم منها أموالاً طائلة حملت كلها إلى الحجاج وقدرت بمائة وعشرين مليون درهم، ومع الغنائم رأس الطاغية 'داهر' وكانت الحملة قد تكلفت ستين مليون درهم فقال الحجاج كلمته الشهيرة [شفينا غيظنا وأدركنا ثأرنا وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس 'داهر'.
هذا هو بطلنا الشاب والذي توقفت الفتوحات الإسلامية في هذا الجزء من الأرض بسبب دخوله محنة عظيمة تأخر بها فتح بلاد الهند زمنا كبيراً
فما هي محنة هذا البطل .. ؟
لما تولى سليمان بن عبدالملك الخلافة قام بتعيين واحد من أشد خصوم الحجاج وهو 'صالح بن عبد الرحمن' أميراً على العراق فقام هذا الرجل بعزل كل رجال الحجاج من مناصبهم ومنهم بالقطع محمد بن القاسم أمير السند وفاتحها وعين مكانه 'يزيد بن أبى كبشة السكسكى'.
وما كان من يزيد بن أبي كبشة الذي ما عاش بعد قبضه على ابن قاسم إلا خمس عشرة يوماً إلا أن نفذ الحكم الجائر واقتاد بطلنا إلى حيث مصيره وهلاكه
واقرأ ما يقوله المؤرخون:
لما وصل نبأ العزل لمحمد بن القاسم حاول البعض إقناعه بالعصيان والانفراد بهذه البلاد البعيدة عن مركز الخلافة، خاصة وأن جنوده يحبونه وكذلك من أسلم من أهل السند والهند
وحاولوا إقناعه بأنه مظلوم ولا ذنب له وتخويفه من صالح بن عبد الرحمن
ولكن محمد بن القاسم كان من الطراز النادر للقادة الذين يعملون لخدمة الإسلام ولا يريدون من الدنيا شيئاً فلا مناصب تهمه ولا دنيا تغريه، وخاف من عاقبة الخروج على الخلافة وما سيؤدى إلى تفرق الأمة وتمزق المسلمين وسفك الدماء بين المسلمين فى فتنة الخروج، ووافق على قرار العزل مع قدرته على المقاومة والانفراد، وأنشد فى ذلك قوله:ـ
ولو كنت أجمعت الفرار لوطئت ***** إناث أعدت للوغى وذكور
وما دخلت خيل السكاسك أرضنا ** ولا كان من عك على أمير
في هذا الوقت وفي هذه المحنة التي يفقد فيه الرجال الكبار صواب التفكير ورجاحة الفكر وحكمة التصرف، وحسن التدبير
وقف هذا الشاب العملاق، موقفاً حكيماً قل أن يقفه قائد قوي منتصر معه جنود على مرمى البصر، يزيلون الجبل بإشارة منه ويقلبون باطن الأرض إلى ظاهرها بأمر منه ..
وخاصة إن محبته عمت البلاد والعباد
عمت المسلمين والمشركين
كان الجميع معجباً بهذا الشاب المؤمن العادل
يوم أن جاءه فرمان العزل شعر الجميع بالظلم الذي وقع على قائدهم وحاكمهم ..
وقف الجميع ضد هذا القرار الظالم، ورفعوا سيوفهم عالياً وكأنهم يقولون: معك حتى الموت .. !
فقد كانت له سيادة و قيادة البلاد وكذا قلوب العباد
وله الأمر والنهي والسلطان
فهم لا يعرفون حاكماً غيره ولا قائداً سواه
فهو مخلصهم من الشرك والوثنية والظلم والجور، وهو من وضع أقدامهم على طريق النور، وهو من أشاع بينهم العدل والإحسان والسرور.
كان بإمكان هذا القائد البطل أن يتمسك بقيادته فهو بعيد عن مركز الخلافة وفي منطقة هو يحكمها ويقودها وتحت يده جيش جرار، وشعب محب له مستعد أن يقاتل من أجل قائده ويخوض معه الجبال والبحار
إن رفض الانصياع فلن يستطيع أي جيش من هزيمته أو أخذ البلاد منه
بل لربما إن هو بادر بالهجوم لأزال الخليفة وجلس على عرشه
ولكن ..
وآه من ولكن هذه؟
هل تربى هذا البطل على عقيدة الخروج على ولي أمره وإن ظلمه وجرده من رتبه وسلبه سلطانه؟
هل تربى بأن يقدم مصلحته الشخصية على مصلحة الأمة؟
هل نشأ على حب الدنيا وحب المناصب والرتب؟
هل ترعرع على قتل المسلمين وإضعافهم وتشتيت جهودهم وزعزعة قوتهم .. ؟
لا ..
بل تربى على كلمات نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم " أسمع وأطع وإن كان عبداً حبشياً "
وتتلمذ على نصائحه صلى الله عليه وسلم " أسمع وأطع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك "
ونشأ على مقولة عمر رضي الله عنه " فأطع الأمير وإن كان عبدًا مُجدَّعًا، إن ظلمك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن أرادك على أمر ينقض دينك فقل: دمي دون ديني."
كان غضب سليمان بن عبدالملك شديداً بعد أن أصبح خليفة على كل من كان على صلة قرابة بالحجاج فنكل ببعضهم وأعفى البعض الآخر من مناصبهم ورتبهم وقتل البعض الآخر
لقد تم عزل بطلنا ورضي بأمر الخليفة معتبراً نفسه في محنة وابتلاء، وانصاع لهذا الأمر الظالم
فقيدت يديه ورجليه بالأغلال وسيق إلى حيث العذاب والتعذيب النفسي والجسدي
فرضخ الشاب المؤمن لقضاء الله، وهو يعلم أن مصيره الهلاك، لا لذنب اقترفه ولكن قدره أنه ابن عم الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أقر الوليد على عزله سليمان من ولاية العهد وتنحيته من طريق الخلافة!
كان يوم سفره حزيناً جداً على قلوب محبيه فخرجت الجموع الحاشدة لتوديعه باكية حزينة، لم يكن العرب وحدهم يبكون على مصيره، بل أهل السند من المسلمين أيضاً خرجوا يرجونه البقاء والدفاع عنه، ولكن نفسه السليمة الأبية رفضت مخالفة أمر الخليفة.
لقد ضرب أروع أمثلة الإنصياع والإنقياد
وكان مثالاً للمسلم والقائد المقدم لمصلحة الأمة على مصلحته الشخصية
وهذه هي المحنة وهذا هو الابتلاء الذي قد يسقط فيها الكثيرون
ولكنه ثبت فنال بعد ذلك رضى الله سبحانه وتعالى فأخذ وعذب في سجن واسط شهورًا بشتى أنواع التعذيب حتى مات البطل الفاتح - - في سنة 95 للهجرة
وأنشد قبل أن يموت:
أضاعونى وأي فتىً أضاعوا ***** ليوم كريهة وسداد ثغر
لقد كان رحمه الله من أعظم أبطال المسلمين ومن أكبر الفاتحين وسيظل اسمه مرتبطاً بفتح مكران وباكستان ....
وصدق من قال: لقد انطفأت بمحنة محمد بن القاسم شمعة لو قدر لها البقاء لصارت شمساً محرقة لأعداء الإسلام ولفتح المسلمون الهند التى تأخر فتحها بعد ذلك بعدة قرون
وسامح الله من أساؤا حين اتخذوا من حكمهم مطية لتحقيق مطامع شخصية وتخليص ثارات لهم.
¥