تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ظل تخاذل وتواطؤ دول الجوار التي آثرت السلامة، فهي أحرص الناس على حياة، وذلك من الداء الذي دب إلينا كما دأب إلى الأمم من قبلنا، وأعظمها إصابة به: أمة يهود: أخبث وأجبن الأمم، وأعظمها تسلطا على المسلمين اليوم إمعانا في العقوبة الربانية لمن قعد عن نصرة هذا الدين، فليت الظاهر علينا كان شريفا رفيع القدر، فذلك مما يتسلى به المنهزمون، ولكنه أحقر البشر وأذلهم على الرب، جل وعلا، فصاروا أعزة لما أعطاهم أتباع الرسالة الخاتمة الدنية في دينهم، وسنن الرب، جل وعلا، لا تحابي أحدا، فمن تعرض لعقوبته، بمخالفة أمره الشرعي، فالعقوبة به نازلة، أيا كان منصبه، وما جرى لصفوة الخلق يوم أحد خير شاهد على ذلك، فشؤم مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولو تأولا، كما وقع من الرماة، لم يسلم منه جيش على رأسه خير الخلق: محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وجنوده: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ...... إلخ من خير ثلة وطئت الثرى بعد الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، فكيف يسلم منه جيوش تفشت فيها الفواحش والمنكرات من مخدرات ومسكرات فضلا عن الجرائم الأخلاقية، وهي مع ذلك تتشدق بآيات ليس لها منها نصيب، فـ: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ)، وهم أحق الناس بالشق الثاني: (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)، وأي خذلان أعظم من سهر الأخ على حبس وتجويع أخيه برسم طاعة الأمر الصادر من القيادة العليا، التي تتسم زورا بالحكمة والعقلانية والرشاد وربما إمارة المؤمنين كما يقع على ألسنة كثير من المخذولين المخذلين!.

والشاهد أن الحركات الإسلامية المعاصرة لم تؤت أكلها إلا فرعا عما لها من حظ من العلم، فهي في ذلك متفاوتة تبعا للظرف المكاني والزماني الذي نشأت فيه، فحركات تجديدية كحركة ابن تيمية، رحمه الله، كمثال على حركة تجديدية متأخرة غلب عليها الطابع العلمي ولم تعزل نفسها عن واقعها العملي، فأتى جهاد الشيخ لأعداء الديانة بالسيف، وأعداء السنة من أصحاب المقالات الردية بالقلم، أتي شاهد عدل على صدق دعوته، فليس ثم دعوة لسانية بلا برهان عملي، وحركات كالحركات المعاصرة من لدن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في الجزيرة إلى عمر المختار، رحمه الله، في ليبيا ومنشأ حركته السنوسية في مستغانم في الجزائر وإن شابها ما شابها من آثار التصوف ولكنها كانت على رسم الجهاد لا القعود كحال كثير من الحركات الصوفية في شمال إفريقية، إلى الشيخ ابن باديس، رحمه الله، في الجزائر، وحركته كانت معدن الثورة الجزائرية، إلى الشيخ حسن البنا، رحمه الله، في مصر، وقد جاءت حركته، على ما عليها من المآخذ الشرعية، فهي كأي عمل إسلامي تخضع لأحكام الشريعة فلم يدع الشيخ رحمه الله عصمة لنفسه أو لأتباعه لتصير طاعتهم واجبة على جهة الإطلاق فليس ذلك لأبي بكر، رضي الله عنه، فضلا عن أن يكون للمصلحين الصادقين من أهل العلم والدعوة المعاصرين، فجاءت حركته، رحمه الله، رد فعل لواقع مزر عاشته مصر خصوصا والعالم الإسلامي عموما بعد سقوط الخلافة الإسلامية، فدعا الناس إلى التوحد تحت لواء الشريعة لاستعادة رابطة الجماعة الإسلامية المفقودة، وإن وقع في ذلك نوع توسع في مفهوم الوحدة الإسلامية فشمل فئاما من أهل البدع المغلظة لمجرد انتسابهم إلى القبلة، والشاهد أن تلك الحركات كانت وليدة عصرها فلا يمكن التسوية بينها في الحكم لاختلاف الظروف والبيئات، واختلاف الأحوال فقد أعطي بعض رجالاتها حظا من الراحة والسعة مكنه من تحصيل العلم فجاءت دعوته أشد تأثيرا من الحركات الأخرى، واضطرت الظروف آخرين إلى خوض غمار المواجهة مبكرا لتردي الأوضاع في عصرهم، ويبقى الحق واحدا لا يتعدد، وإنما يعتذر بذلك عن أهل الفضل فيما راموا فيه الإصابة فلم يوفقوا، وليس، ثم معصوم، كما تقدم، بعد قبض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فذلك هو العدل في الحكم على المكلفين، فالعدل: قوام شريعة رب العالمين، فبه قامت السماوات والأرض، وجاءت النواميس والكتب، فلا يمكن فصل الإنسان عن عصره فهو ابنه، شاء أو أبى، وتأثره به سنة كونية جارية، لا يمكن إهمالها، فالواقع إيؤثر يجابا أو سلبا في تصورات البشر.

والقسام، رحمه الله، مجاهد دولي، إن صح التعبير، فقد جاهد الفرنسيين في سوريا والإنجليز في فلسطين، فمثله في ذلك مثل الرجل العظيم الذي سبقه إلى هذا الميدان: عمر المختار، رحمه الله، فقد جاهد الطليان على أرضه، والإنجليز على حدود مصر، والفرنسيين في تشاد، على ما قد علم من سيرته العطرة، ومما أثر عن شيخ الطريقة السنوسية محمد المهدي قوله عن المختار رحمه الله: "لو كان لدينا عشرة مثل المختار لاكتفينا". ومن وصف محمد الطيب الأشهب السنوسي للمختار رحمه الله: " ... فكنت أنام بخيمته وإلى جانبه وأهم ما كنت أمقته منه وأنا وقت ذاك حديث السن هو أنه لا يتركنا أن ننام، يقضي كل ليلة يتلوا القرآن مبكرا فيأمرنا بالوضوء بالرغم مما نلاقيه من شدة البرد ومتاعب السفر".

فذلك من جنس ما وصف به خالد، رضي الله عنه، فهو: "الرجل الذي لا ينام ولا يدع غيره ينام! ".

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير