مشكاة الوحي.
وأخيرا: حوصر الشيخ، رحمه الله، مع ثلة من أتباعه المخلصين، فقد كان فعالا لا قوالا، فهو، وإن تفاوتت الأقدار تبعا للتفاوت في الأعيان والأزمان، هو من جنس الصديق، رضي الله عنه، لما شفع قوله بالعمل في حرب الردة فقاد الجيوش إلى ذي القصة لمباغتة المرتدين الذين طمعوا في المدينة لما رأوا من ضعف تحصيناتها ثم غراهم بجيوشه في عقر دارهم فصار لسان مقال أحدهم:
ألا يا اسقياني قبل خيل أبي بكر ******* لعل المنايا قريب وما ندري!.
فخيله رسل المنايا للقوم الظالمين كما أنها رسل السلامة والبشارة للقوم المؤمنين، وتلك سنة كل قائد رباني، فليس ثم سكون وقعود في غرف العمليات المكيفة ثم نسبة للنصر إلى النفس، وجحود لفضل الرب، جل وعلا، الذي امتن برفع الذلة، ولو لم يكن الجيش على الصورة الإيمانية المثلى، فالرب، جل وعلا، كريم، لو أريناه من أنفسنا بادرة إيمان ورجوع إلى الوحي لعاجلنا بفيض من رحماته، فـ: "إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً".
ثم استشهد الشيخ الفعال لما يقول، رحمه الله وقدس روحه، استشهد في 25 نوفمبر 1935 م، وهو في الرابعة والستين، فهو على وزان رجالات كموسى بن نصير الذي اعتزم فتح أوروبا من مغربها إلى دار الخلافة في دمشق، وقد ناهز الرابعة والسبعين، ويوسف بن تاشفين الذي عبر إلى الجزيرة الأندلسية لتأديب عباد الصلبان في الزلاقة وقد ناهز الثمانين، وعمر المختار الذي دوخ الطليان وقد جاوز السبعين، وليس لإرادات وهمم أولئك النفر من الرجال منتهى.
وصار جهاد أولئك الأفاضل مضرب المثل:
فهتلر يوجه رسالة إلى ألمان السوديت عام 1936 م قائلا: "اتخذوا يا ألمان السوديت من عرب فلسطين قدوة لكم، إنهم يكافحون إنجلترا واليهودية العالمية معا، ببسالة خارقة، وليس لهم في الدنيا نصير أو مساعد، أما أنتم فالدنيا كلها من ورائكم". اهـ
والجنرال ولسون وكان قائد بريطانيا في بعض معارك فلسطين يشهد: "إن خمسمائة من ثوار عرب فلسطين يقومون بحرب العصابات، لا يمكن التغلب عليهم بأقل من فرقة بريطانية كاملة السلاح". اهـ
وفي ذلك رد قاطع حاسم يشفي وساوس الصدور من المقالة التي يروجها المنهزمون كحيلة نفسية مكشوفة لإراحة الضمائر من تبعة القعود عن نصرة الموحدين بزعم أنهم خانوا الأمانة وفرطوا في بلادهم وأرضهم، فما جرى لهم قصاص عادل!، فليس ثم ما يدعو إلى الأرق أو القلق، وتلك نبرة سرت حتى إلى كلام بعض أهل الفضل والديانة ولو بشكل غير مباشر، وهي من آثار الواقع المزري الذي نعيشه والذي لم يسلم منه أحد سواء أكان من أهل الديانة أم من أهل الفجور الذين حسموا أمرهم ابتداء ونفضوا أيديهم من غبار المعركة فلا يعنيهم إلا أمر شهواتهم وملذاتهم فهم في فلكه يسبحون.
ولا ينكر أحد وجود فئام من الخونة في صفوف كل أمة، فالخيانة ظاهرة أممية، بل قد قال أحد الأفاضل من قلب الأحداث من بيت المقدس بأن مما يسهل على يهود أمر الاستيلاء على ممتلكات الموحدين هو الخيانة التي يلعب فيها الخائن دور المشتري لممتلكات المسلمين وهو محض وسيط لمشتر يهودي فدوره دور السمسار أو المشتري الظاهر الذي تمرر من خلاله الصفقة!، ومع كل ذلك:
لا يمكن أن يهدر جهاد أمة بأكملها لمجرد خيانة آحاد أو عشرات أو مئات أو حتى آلاف، فمقابلهم: أضعاف أضعافهم من الصادقين المخلصين الذين رجحت كفتهم كفة أولئك، وإذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث، وأمام أعيننا الآن صورة حية لهذا الخبث الذي أودى بالمسألة المقدسية إلى موائد المفاوضات التي يمثل المسلمين فيها رغما عن أنوفهم ثلة من المتآمرين يتبارون الآن لصراع المصالح المحتدم بينهم، يتبارون في إظهار نقائصهم، بل قل فضائحهم التي صور بعضها وبثت مقتطفات منه على الفضائيات، وهو غيض من فيض، ففضائحهم الموثقة صوتا وصورة وكتابة من التواتر بمكان، ومنها فضائح أخلاقية يستحى من ذكرها، فتقوم الكناية فيها مقام التصريح، ومع ذلك لم تكن تلك الشناعات مبررا لإهدار جهاد وتضحيات أمة الإسلام في تلك البلاد الطيبة، وهي تضحيات لا زالت تقدم إلى اليوم في
¥