وجاءت النكرة في سياق الشرط مئنة من العموم فإن نزغك وسواس، أي وسواس، قويا كان أو ضعيفا، فاستعذ، على سبيل الإرشاد ولا مانع من حمله على أصل معناه وهو الوجوب، فالأصل في الأمر الوجوب، فالاستعاذة من خواطر السوء واجبة، ولو من باب سد الذرائع لما قد يتولد عنها من الإرادات الفاسدة.
ثم ذيلت الآية بعلة ذلك، على ما اطرد في هذه المواضع من التذييل بالعلة عقيب الحكم مفصولة لشبه كمال الاتصال بين المعلول وعلته، فإيراد العلة عقيبه مما يرسخ المعنى في الذهن فتأنس به النفس، وإن كان كمالها في التسليم المطلق لأمر الوحي، ولكن معرفة العلة تزيدها يقينا وطمأنينة، وذلك من فضل الرب، جل وعلا، الذي أطلع من شاء من عباده على جملة من علل أحكامه، فمنها المنصوص عليه ومنها المستنبط، وذلك باب واسع في الأصول، بل هو أصل قائم بذاته من أصول الأحكام في هذه الشريعة يدل على موافقتها للعقول الصريحة، فليس في ملة من الملل ما في الإسلام من أصول القياس الصحيح استنباطا لأحكام النوازل الحادثة بقياسها على أصول منصوص على حكمها لعلل جامعة بينها يدركها العقل، وذلك إنما يكون في غير الأحكام التعبدية المحضة التي لا يدرك العقل حكمتها، وإن كان لها حكمة في نفس الأمر، استأثر الرب، جل وعلا، بعلمها، فلم يطلع أحدا عليها ليحصل كمال الابتلاء بكمال التسليم لأمر الشارع الحكيم جل وعلا.
فكأن الذهن قد تساءل عن علة الاستعاذة بالله، عز وجل، دون من سواه، فجاءت العلة مصدرة بالتوكيد:
إنه سميع عليم: فهو السميع لمن استعاذ به من الشيطان، والسمع في هذا الموضع محمول على الإجابة، كما حرر ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، مستشهدا بالبيت الشهير:
دَعاني إليها القلب إني لأمْرِه ******* سَميع فما أدْري أرُشْدٌ طِلابُها
أي: مجيب، فالاستعاذة نوع دعاء فناسبه سماع الاستجابة، فالرب، جل وعلا، يسمع بمعنى إدراك المسموع، على وجه يليق بجلاله، فلا يعلم حقيقته إلا هو، فذلك السمع العام، ويسمع دعاء أوليائه، فذلك السمع الخاص فيجيب دعاءهم وينصرهم على وزان قوله تعالى: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، ويسمع نجوى أعدائه، (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) فذلك، أيضا، سمع خاص، ولكنه في مقام التهديد، فالسمع، أيضا، مادة كلية، يرد عليها قيد السياق فيدل على المعنى المراد على ما تقدم من كون السياق قرينة تدل على مراد المتكلم من الألفاظ التي تحتمل أكثر من معنى، فمادتها الكلية تقبل الانقسام إلى معان جزئية يعينها سياق الكلام كما تقدم.
فهو السميع للاستعاذة العليم بما يلقي الشيطان من الوساوس وبما يقع في القلب من المدافعة بين حزب الخير: نازعا رحمانيا وهاتفا ملائكيا، وحزب الشر: نازعا نفسيا وهاتفا شيطانيا، فإذا كان ذلك وصفه، تبارك وتعالى، فهو المقلب للقلوب بإرادته الكونية النافذة فما شاء منها ثبته بفضله، وما شاء منها أزاغه بعدله، إذا كان ذلك وصفه صار كمال الحال إفراده بعبادة الاستعاذة دون من سواه.
وجاء التذييل في سورة فصلت: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) مؤكدا بتعريف الجزأين وضمير الفصل، فتلك زيادة في المعنى تعضد آية الأعراف على ما اطرد في التنزيل من تفسير الآيات بعضها ببعض، ففي مواضع زيادات مبينة أو مؤكدة لمواضع أخر.
والله أعلى وأعلم.
ـ[كرم مبارك]ــــــــ[03 - 03 - 2010, 08:25 م]ـ
دائماً تأتي بالجديد المفيد أخي المهاجر
ـ[أبو طارق]ــــــــ[03 - 03 - 2010, 09:04 م]ـ
بارك الله فيك
وجزاك خيرًا على ما تفيد به إخوانك
ـ[الباز]ــــــــ[03 - 03 - 2010, 11:34 م]ـ
بارك الله فيك أخي مهاجر
مواضيعك دائما قمة في الروعة والفائدة وحسن التسلسل ..
شكرا جزيلا لك وجزاك الله خيرا ..
ارتأيت أن أضيف هاتين الفائدتين فيما يخص الاستعاذة:
الفائدة الأولى:
حكي أن بعض السلف قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سوّل لك الخطايا؟
قال: أجاهده،
قال: فإن عاد؟
قال: أجاهده ..
قال: فإن عاد؟
قال: أجاهده
قال: إنّ هذا يطول، أرأيت لو مررت بغنم قنبحك كلبها ومنعك من العبور ما تصنع؟
قال: أكابده وأرده جهدي ..
قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم، يكفه عنك،
فهذه فائدة الاستعاذة من الشيطان الرجيم.
الفائدة الثانية (افرح بوسوسة الشيطان يا مؤمن ولاتغتم):
قال أحمد بن أبي الحواري: شكوت إلى أبي سليمان الداراني الوسواس،
فقال: إذا أردت أن ينقطع عنك، فأيَّ وقتٍ أحسستَ به فافرحْ،
فإنك إذا فرحْتَ به انقطع عنك، لأنه ليس شيء أبغض إلى الشيطان
من سرور المؤمن، وإن اغتممتَ به زادك.
وهذا مما يؤيد ما قاله بعض الأئمة: إن الوسواس إنما يُبتلى به منْ كمل إيمانه،
فإن اللص لا يقصد بيتا خربا.
وافر ودي و تقديري