تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

علمه المحيط، ثم ذيل بقوله: هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ: فأعاد الضمير لطول الفاصل ولإفادة التوكيد فتلك من دلالات الإعادة القياسية، وفيه من القصر ما في صدر الآية، فهو الرحمن برحمته العامة التي عمت المؤمن والكافر، البر والفاجر، الرحيم برحمته الخاصة لعباده المؤمنين في دار الجزاء، فرحمته عامة في الدار الأولى خاصة في الدار الثانية.

والتذييل بالرحمة عقيب العلم تذييل بالمعلول فرعا عن علته، فدلالة الرحمة على العلم دلالة التزام، إذ قد علم تبارك وتعالى، أحوال عباده وحوائجهم التي لا تنقضي، فلا يستغنون عن مدده الشرعي والكوني طرفة عين، ففقرهم إليه لا ينقضي إذ هو وصف ذاتي لازم لأرواحهم التي تفتقر إلى كلماته الشرعيات، وأبدانهم التي تفتقر إلى كلماته الكونيات، فلما علمها تبارك وتعالى بعلمه الأول والثاني، امتن عليهم فمنهم من رحمه برحمته العامة التي تشترك فيها كل الخلائق، فذلك فضل منه إذ لا حق للعباد عليه إلا ما كتبه على نفسه من الرحمة بهم، فهو الذي رخص لهم في مباشرة نعمه الكونية، مع أنهم عباده فلو استعملهم في طاعته ليل نهار ما ظلمهم، إذ الملك الصانع، في عالم الشهادة، أحق بملكه وصنعته، ولله المثل الأعلى، فذلك كما حقق صاحب "الموافقات" رحمه الله أحد أوجه رخص الباري، عز وجل، لعباده، فقد رخص لهذه الأمة المرحومة ما لم يرخص لغيرها فاستثنى أحكاما وعقودا كالسلم، على قول من قال بأنه خلاف الأصول، والقرض، فصورة الربا فيه كائنة ولكن مصلحة قضاء دين المقترض قد فاقت مفسدة فوات شرط التقابض في بيع النقدين، فالصورة صورة بيع نقد عاجل بنقد آجل وإن تساويا في المقدار، ووضع عنها الآصار التي لم توضع عمن سبقها، واختصها بإباحة جملة من الطيبات لم تبح لغيرها.

ومن قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ):

فأطنب بتكرار الضمير لطول الفصل ولاقتضاء مقام التعظيم ذلك، فالتعظيم يناسبه تكرار الذكر، فالمعظم ذكره جار على الألسنة، حاضر في الأفئدة، فهو الله، على حد القصر بتعريف الجزأين، كما تقدم، فقصر وصف التأله عليه، على القول باشتقاق اسم: "الله" عز وجل، فهو المعبود بحق لا معبود بحق سواه، فهو المستحق وحده لهذا الاسم، وإن أطلق على غيره، فإن العبرة بالمعاني لا بالمباني، فلمن شاء أن يدعي ما شاء، ولكن يلزمه إقامة الدليل على دعواه، فمن ادعى ألوهية المسيح أو العزير ..... إلخ، فليقم الدليل السالم من المعارضة على دعواه، وأنى لمستدل أن يقيم دليلا سالما من المعارضة على خلاف ما قررته النبوات في باب الإلهيات، فقد كفت وشفت ببيانها الوافي، فشفت وساوس الصدور، بضبط الأصول، وإنما تدخل الآفة، كما قال ابن الجوزي، رحمه الله، من المبتدعة والجهال، والابتداع والجهل قرينان، فصاحبهما: غال في المحبة، غال في التأله على غير منهاج النبوات، فيستحسن ما يجد له حلاوة بذوقه ووجده، دون رده إلى محكم الوحي، لضعف قوته العلمية في مقابل قوته العملية وذلك مظنة الإحداث في الديانات، فالنفس قد جبلت على الحركة ما بقي فيها عرق ينبض، فإن لم تضبط حركتها بأحكام النبوات، تحركت على غير هدى فضلت وأضلت، فالشريعة هي معقد النجاة في هذا الباب، والحاكم المهيمن على كل وجدان وقول وفعل هو الوحي، فهو الرقيب على كل خلجات النفوس الباطنة، وحركات اللسان والجوارح الظاهرة، فمن استعصم به سلم ومن ضل عنه تخبط واضطرب.

وإلى طرف من ذلك أشار ابن الجوزي، رحمه الله، في "صيد الخاطر" بقوله:

"اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول، محروس القواعد، لا خلل فيه ولا دخل، وكذلك كل الشرائع.

إنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير