تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعلى طريقة من ينكر وقوع الترادف من كل وجه بين لفظين في لغة العرب، وإن اشتركا في معنى كلي جامع، كلفظي: "القدوس" و "السلام" فكلاهما دال على معنى التنزيه، ومع ذلك انفرد كل منهما بقدر ليس في الآخر حصل به التباين في المعنى فرعا عن التباين في المبنى، على هذه الطريقة، وهي الطريقة التي ارتضاها من المتقدمين أمثال الجاحظ وهو من عمد هذا الشأن، على زيع وانحراف في طريقته في الإلهيات فهو من رءوس الاعتزال في زمانه، ومن المتأخرين أمثال ابن تيمية، رحمه الله، ومن المعاصرين أمثال صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وهو من عمد المقدمين في هذا الشأن على تأخر زمانه، فاسم القدوس قد انفرد بالتنزيه اللازم في ذات الرب، جل وعلا، فهو المنزه في نفسه، واسم السلام قد انفرد بالتنزيه المتعدي، فلا يظلم أحدا، ولا يبخس حقا، فهو الغني بذاته، والظلم إنما يقع من الفقير إلى ما عند غيره فيظلمه إياه ويقهره عليه ليسد به فاقته، وتلك معان لا تليق بآحاد الصالحين من البشر، فكيف برب العالمين تبارك وتعالى؟!. فيكون وصف القدوس من وصف الذات، ووصف السلام من وصف الفعل على ما تقدم من اختصاصه بفعل الرب المتعدي إلى عباده.

ثم جاء الوصف بالإثبات عقيب نفي النقص في الذات والفعل، فهو: المؤمن: فمادة الإيمان تعم معان ثابتة للرب، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله من قبيل:

تأمينه لعباده المؤمنين، وإن مسهم الخوف في دار الابتلاء، فذلك مما يتوصل به إلى الأمن يوم الوعيد، بل إن تأمينه لعباده عموما، كائن بمقتضى رحمته العامة، فأمن الطير والحيوان والبشر، على الأرزاق فهي واسعة، وإنما ضيقها الخلق بما جبلوا عليه من الشح وحب الأثرة، وعلى الأبدان، فهي محفوظة، وإن نالها من أعراض العطب ما اقتضته السنة الكونية إظهارا لكمال الرب، جل وعلا، السالم من العيب والنقص، فبنقص أوصاف المخلوق يظهر كمال أوصاف الرب المعبود جل وعلا.

فتأمينه لعباده: عام لكل الخلق بمقتضى رحمته العامة فهو فرع عن اسمه: "الرحمن".

وتأمينه لعباده: خاص بأوليائه بمقتضى رحمته الخاصة فهو فرع عن اسمه: "الرحيم".

ومن تأمينه لخاصته: تصديقه لرسله، عليهم السلام، بما أنزل عليهم من الآيات الشرعية في معرض الحِجاج، وما أجرى على أيديهم من الآيات الكونية في معرض الإعجاز، وعلى هذا المعنى يكون لرسله عليهم السلام من ذلك الوصف نصيب، على ما اطرد من الاشتراك في بعض الأوصاف بين الرب والعبد، على سبيل الاشتراك في المعاني الكلية المطلقة، فلكل منها نصيب يناسب حاله من الكمال أو النقصان، فالرب مؤمن على الوجه اللائق بجلاله، والعبد مؤمن على الوجه اللائق بحاله، فالرسل عليهم السلام بعثوا بتصديق ما بين أيديهم من الرسالات فهم مؤمنون لمن تقدمهم، بإقرارهم التوحيد: جوهر الرسالات، وأصول الشرائع والأحكام، فكل أولئك مما لا يتصور ورود النسخ عليه، فلم ينسخ نبي ما قرره سابقه من التوحيد فدعا إلى الشرك، كما يزعم عباد الصلبان الذين افتروا على المسيح عليه السلام فاتهموه بجريمة الشرك أعظم صور الظلم، بل اتهموه بما اقترفه فرعون من الدعوة إلى اتخاذه ربا مشرعا وإلها معبودا بالطاعة المطلقة ولا يكون ذلك إلا للرب، جل وعلا، ولرسله، عليهم السلام، لا من جهة اتخاذهم أربابا، وإنما من جهة بلاغهم رسالات ربهم جل وعلا. فبرأه الله مما قالوا كما جاء في آخر المائدة: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير