تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم جاء وصفه جل وعلا بـ: الْمُهَيْمِنُ: فهو الحافظ في لغة غير قريش، الرقيب في لغتها، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، والمعنيان يجمعان أيضا ما تقدم من: الجمال والجلال، فحفظه لخلقه بما تقدم من تيسير الأرزاق وإجراء أسباب الحياة، من وصف جماله، فلا يكون ذلك إلا من رحمته وحكمته في التدبير الكوني العام والتدبير الشرعي الخاص الذي يصلح به أمر الدين والدنيا فرسالاته كما تقدم مادة صلاح هذا الكون، وغناه فإنه لا يجيب السائلين إلا هو، فلا عطاء إلا عطاؤه، وإن أجراه على يد عبد من عباده فإجراء المسبَّب بسببه، فلا يستقل السبب بالتأثير، وإنما يحدث أثره بإذن ربه عز وجل.

ومن حفظه ما يتعلق بوصف جلاله، وهو حفظ أعمال عباده إحصاء وإن نسوها، فـ: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، فتلك من مواضع التحذير التي يناسبها التذكير بأوصاف جلاله من الإحاطة العامة بالسر والعلن، بالقول والعمل، فهو من هذا الوجه يضارع وصف الرقيب في لسان قريش، فله وصف الجمال بالرعاية ووصف الجلال بالإحاطة.

ثم ثنى بذكر جملة من أوصاف الجلال: (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) بينها من التلازم ما أشار إليه ابن القيم، رحمه الله، بقوله:

" فالجبار في صفة الرب سبحانه ترجع إلى ثلاثة معان الملك والقهر والعلو فإن النخلة إذا طالت وارتفعت وفاتت الأيدي سميت جبارة ولهذا جعل سبحانه اسمه الجبار مقرونا بالعزيز والمتكبر وكل واحد من هذه الأسماء الثلاثة تضمن الاسمين الآخرين وهذه الأسماء الثلاثة نظير الأسماء الثلاثة وهي الخالق البارئ المصور فالجبار المتكبر يجريان مجرى التفصيل لمعنى اسم العزيز كما أن البارئ المصور تفصيل لمعنى اسم الخالق فالجبار من أوصافه يرجع إلى كمال القدرة والعزة والملك ولهذا كان من أسمائه الحسنى وأما المخلوق فاتصافه بالجبار ذم له ونقص كما قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّار} أي مسلط تقهرهم وتكرههم على الإيمان وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطأهم الناس) ". اهـ

"شفاء العليل"، ص202.

فكل اسم قد دل على معنى انفرد به، وهو مع ذلك متضمن للاسمين الآخرين، أو دال عليهما باللزوم، على ما اطرد في باب الدلالات في توحيد الأسماء والصفات، فبين أوصاف الجلال تلازم وثيق، كما في التلازم بين معاني العلو على سبيل المثال: فهو يتضمن علو الذات علوا عاما على سائر الكائنات وعلوا خاصا على العرش: أعظمها فيستوي عليه استواء يليق بجلاله، وعلو الشأن فذلك من وصف النفس، وعلو القهر للغير، وكلها معان متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض. فكذلك أوصاف العزة والجبروت والكبرياء، وهي من أخص أوصاف الرب، جل وعلا، فلا يشركه غيره فيها، بل إنها لا تكون كمالا إلا في حقه، تبارك وتعالى، فإذا أطلقت على غيره كانت عين النقصان، كما تقدم من كلام ابن القيم رحمه الله، فالمخلوق الحادث محله ناقص لا يقبل آثار تلك الصفات فإذا وردت عليه أفسدته، وهذا أمر ظاهر في أحوال فراعين الأمس وفراعين اليوم!، فاتصافهم بالجبروت قد أطغاهم فأفسد حالهم وحال أتباعهم الذين يخشونهم كخشية الله أو أشد خشية!.

ثم ذيل بالتسبيح إمعانا في التنزيه: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، فالآية قد نوعت في وصف الرب، تبارك وتعالى، ثناء بالإثبات تارة، وتنزيها بالنفي تارة أخرى، وقد جاء الإثبات مفصلا بتعداد جملة من أسمائه تبارك وتعالى، وجاء التنزيه مجملا كما في التذييل بالتسبيح عن عموم ما يشركون به، تبارك وتعالى، فـ: "ما": نص في العموم، كما قرر أهل الأصول، وإن قصره صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، على معبودات بعينها هي معبودات المخاطبين من كفار قريش، فالمعنى، كما تقدم، يعمهم ابتداء بوصفهم سبب الورود، فدخولهم في عمومه قطعي، ويعم غيرهم من سائر أصناف المشركين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير