تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) (مريم)

انتفض الأب واقفا وهو يرتعش من الغضب. قال لإبراهيم وهو ثائر إذا لم تتوقف عن دعوتك هذه فسوف أرجمك، سأقتلك ضربا بالحجارة. هذا جزاء من يقف ضد الآلهة .. اخرج من بيتي .. لا أريد أن أراك .. اخرج.

انتهى الأمر وأسفر الصراع عن طرد إبراهيم من بيته. كما أسفر عن تهديده بالقتل رميا بالحجارة. رغم ذلك تصرف إبراهيم كابن بار ونبي كريم. خاطب أباه بأدب الأنبياء. قال لأبيه ردا على الإهانات والتجريح والطرد والتهديد بالقتل:

قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) (مريم)

وخرج إبراهيم من بيت أبيه. هجر قومه وما يعبدون من دون الله. وقرر في نفسه أمرا. كان يعرف أن هناك احتفالا عظيما يقام على الضفة الأخرى من النهر، وينصرف الناس جميعا إليه. وانتظر حتى جاء الاحتفال وخلت المدينة التي يعيش فيها من الناس.

وخرج إبراهيم حذرا وهو يقصد بخطاه المعبد. كانت الشوارع المؤدية إلى المعبد خالية. وكان المعبد نفسه مهجورا. انتقل كل الناس إلى الاحتفال. دخل إبراهيم المعبد ومعه فأس حادة. نظر إلى تماثيل الآلهة المنحوتة من الصخر والخشب. نظر إلى الطعام الذي وضعه الناس أمامها كنذور وهدايا. اقترب إبراهيم من التماثيل وسألهم: (أَلَا تَأْكُلُونَ) كان يسخر منهم ويعرف أنهم لا يأكلون. وعاد يسأل التماثيل: (مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ) ثم هوى بفأسه على الآلهة.

وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة .. إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم (لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها، فيرجعون إلى صوابهم.

إلا أن قوم إبراهيم الذين عطّلت الخرافة عقولهم عن التفكير، وغلّ التقليد أفكارهم عن التأمل والتدبر. لم يسألوا أنفسهم: إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئا؟! وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟! وبدلا من ذلك (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة التماثيل، ويتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد انصرافهم عنها!

فأحضروا إبراهيم عليه السلام، وتجمّع الناس، وسألوه (أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ)؟ فأجابهم إبراهيم (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر. فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم -عليه السلام- والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون. فالأمر أيسر من هذا بكثير! إنما أراد أن يقول لهم: إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا. فهي جماد لا إدراك له أصلا. وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل. فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم أن هذا التمثال هو الذي حطمها!

ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا، وردهم إلى شيء من التدبر التفكر:

فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) (الأنبياء)

وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف، وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم. وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم، وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون. ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام، وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود:

ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ (65) (الأنبياء)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير