ثامناً: أن يسارع أولاً في استشارة أهل العلم والفضل في أمر هذه الإشاعة وعليه أن يأخذ بمشورتهم فإنهم أدرى بالمصلحة بحكم علمهم وتجربتهم. بل قد بين الله تعالى في محكم التنزيل أن هذا المسلك - أعني مسلك الرد إلى أهل العلم - هو المسلك السليم في مثل هذا.
قال تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً}.
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى: (هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة، ما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين، أو الخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً لهم وتحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك وإن رأوا ما فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه.
ولهذا قال (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولي من هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله ولا يتقدم بين أيديهم فإنه أقرب للصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها. والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا؟ فيحجم عنه.
انتهى كلامه رحمه الله تعالى وهو في غاية التحقيق والدقة.
أما المنقول له.
أي الذي نُقِلت له الإشاعة.
أولاً: عليه أن يُذَكِّر الناقل بالله تعالى وأنه محاسب ومؤاخذ على كل كلمة يلفظ بها.
ثانياً: وعليه أيضاً أن يحثه على التروي وعدم العجلة في نقله.
ثالثاً: عليه أيضاً أن لا يبادر بتصديق الإشاعة فوراً خاصة إذا لم تكن الأدلة والقرائن قائمة أكمل قيام وأتمه.
رابعاً: إذا كانت الإشاعة عن شخص موسوم بالخير فينبغي أن يحمل على المحمل الحسن ويلتمس له العذر في ذلك إذا كان للعذر مبرر شرعي صحيح.
فإن لم يكن له مبرر في ما نسب إليه فعلى المنقول له أن يذكر الناقل بأن الواجب في هذه الحالة النصح والتوجيه حتى يستقيم الخلل الذي سبب وجود الإشاعة.
أمَّا المنقول عنه:
لا يخلوا من نسبت إليه الإشاعة في الجملة من أمرين اثنين.
إّما أن يكون معلوماً أو مجهولاً.
فإن كان معلوماً فإما أن يكون من المشهود لهم بالخير والاستقامة وخاصة العلماء أو من عامة المسلمين فإن كانت الإشاعة منسوبة إلى القسم الأول أي المشهود لهم بالخير فعلى الإنسان أن يتق الله ويمسك لسانه عن الخوض في أعراضهم خاصة العلماء المشهود لهم بالخير وحسن المعتقد.
وإن كان من نسبت إليه الإشاعة غير موسوم بالخير فليحذر الناقل أن يتزيد عليه حتى لو كان عدواً له فإن هذا من الظلم والكذب {ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى: (ولا يجرمنكم - أي لا يحملكم - شنآن قوم - أي بغضهم - على أن لا تعدلوا - كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط بل كما تشهدون لوليكم فاشهدوا عليه كما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له فلو كان كافراً أو مبتدعاً. فإنه يجب العدل فيه وقبول ما يأتي به من الحق لا لأنه قله ولا يرد الحق لأجل قوله فإن هذا ظلم للحق. اعدلوا هو أقرب للتقوى: أي كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في العمل به كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم فإن تم العدل كملت التقوى.
أما إن كان الشخص مجهولاً فالحق أن يلحق بالذي قبله ولا يجوِّز ناقل الإشاعة لنفسه التقول عليه بدون تثبت محكم جهالته. فالجهالة لا تشفع للقول بلا علم وأيضاً فقد يبلغ الخبر ذاك المجهول فيحمل على من تكلم فيه بغير حقٍ.