[مقال ليس لي]
ـ[بليغ]ــــــــ[24 - 07 - 2003, 02:25 ص]ـ
فضاءات في اللغة العربية
أميرة كشغري*
بعيدا عن أزمات السياسة وتعقيداتها، وبعيدا عن هموم الفكر وتداعياته، قد يجد الإنسان سلوى في التنزه بين خمائل اللغة ... نزهة ربما لم تكن خالية من المفاجآت ... إلا أنها لا تحمِّل العقل فوق طاقته ولا تجهده فوق جهده.
لقد اكتسبت اللغة العربية كنية "لغة الضماد" وقيل في ذلك أن السبب يرجع إلى أنه ما من لغة أخرى في العالم فيها ذلك الحرف. ولأني لم أقم ببحث يؤكد أو ينقض هذه المقولة ... فإنني لا أملك حق الاعتراض عليها من حيث دقتها ... ولكن هناك من اللغويين العرب من يعتقد أنه من حيث الأهمية فإن النون - حرفا وتنوينا- هو الحرف الأكثر بروزاً والأكثر فاعلية في اللغة العربية ... وهي لذلك أحق أن تسمى لغة النون. ويسهل التدليل على هذا إحصائيا بمجرد قراءة سريعة في أمهات الكتب العربية، ولعل تلاوة سورة من القرآن الكريم كافية أيضا لترك الانطباع الذي لا يخطئ حول أهمية حرف النون في لغتنا الجميلة.
وعلى الرغم من أن بعضهم وصف المجتمع أو نسقه اللغوي والثقافي بالذكوري إلا أن المجتمع ذاته قام بكل أريحية ليمنح هذا الحرف العزيز والأثير لديه إلى النساء خاصة دون الرجال. فأضحى لدى النساء نون النسوة ... ولعل في ذلك ترضية لنا معشر النساء عما حُرمنا منه كثيرا وطويلا ... فلا أقل من جائزة ترضية تتمثل في حرف كامل ... فالشكر موصول لأشقائنا الرجال فيما منحوه ... وشيء من العتب فيما يمنعوه.
ولكنني أدعي بعد ذلك أن هناك لفظة في اللغة العربية هي أبرز من كل الحروف وأكثر أهمية في توصيف اللغة العربية وتحديد هويتها ... ألا وهي اللفظ "فَعَلَ" بفتح جميع الحروف ... إذ لم تتمحور لغة من اللغات الحية على كلمة واحدة وتتشكل قواعدها وِفقها، حسب علمي على الأقل، تمحور اللغة العربية على كلمة "فَعَلَ" ولست أظن أني بحاجة إلى تدليل.
ولنبدأ بتقسيم الكلام في اللغة العربية، فقد صنف النحويون الكلام إلى اسم وفعل وحرف، ولا يخفى على عربي - وخصوصا في هذه الأيام - أن الفعل هو أهم هذه الأقسام، إذ إن الحرف لا معنى له منفردا، أما الاسم فيصاغ غالبا من الفعل لينتج لدينا اسم الفاعل واسم المفعول واسم المصدر ... ويظل الفعل هو الأساس حيث يصنف إلى ثلاثي ورباعي ويصنف إلى صحيح ومعتل ... ولعله من اللافت للنظر أن الفعل الصحيح لا يحظى بكثير من الجدل كما لا يثير كثيرا من الاهتمام بقدر ما يثيره الفعل المعتل ... فهو الأكثر إثارة وتشويقا. والمعتل من الأفعال هو ما يبرز إلى الواجهة غالبا أما الصحيح فيتوارى في الظل.
وبدوره يصنف الفعل المعتل إلى معتل الأول ومعتل الأوسط ومعتل الآخر ... وبعض الأفعال التي نصطدم بها في واقع الحال فيها أكثر من علة ... مثل الفعل "آوى" كما يختلف تصريف الفعل حسب علته ... فما كانت علته الألف يختلف عما كانت علته الواو ... أما ما كانت علته الواو فذاك أمر من أمور المجتمع يخرج عن نطاق اللغة لأن علة الواو في الفعل المجتمعي أشد تأثيرا من علة الواو في الفعل اللغوي.
وقد أصبح الفعل الثلاثي "فَعَلَ" هو المسطرة التي تقاس بها بقية الأفعال، فيقال فاء الفعل كناية عن أول حرف فيه "حرف الفاء" ويقال عين الفعل للدلالة على أوسطه كما يقال لام الفعل كناية عن آخر حرف فيه "حرف اللام". أما الفعل "علف" يقال (علفت الدابة أي أكلت العلف) فله سمة أشد ما تكون غرابة فهذا فعل فاؤه عين. وعينه لام ... ولامه فاء! فهو فعل يظهر غير ما يبطن ... وهو بهذا لا يمكن الركون إليه تماما كما في مجتمع البشر.
ومن تصنيف الكلام، نيمم شطر الشعر وما أدراك ما الشعر، فالشعر ديوان العرب ... ومرة أخرى نرى محورية اللفظ "فَعَلَ" واضحة جلية ... فالشعر العمودي هو النمط الأوحد المعترف به رسميا لا يستوي معه نمط آخر ... بل لا يندرج في تصنيف الشعر ما لم يطع قواعده طاعة عمياء لا محل فيها للإبداع أو للتفكير ... وقد صنف هذا الشعر في بحور ... والبحور تتبع التفعيلة التي هي بدورها محورةٌ من "فَعَلَ". فهذا البحر الكامل "متفاعلن متفاعلن متفاعلن" كقول أبي تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
وهذا البحر الوافر "مفاعلتن مفاعلتن فعولن" كما في قول المتنبي:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلالِ
¥