بخلاف النصوص الإلهية، فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل. ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه؛ فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها: نفيا وإثباتا؛ لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل؛ فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفي باطله، بخلاف كلام الله ورسوله فإنه حق يجب قبوله وإن لم يفهم معناه، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه.
وأما المختلفون في الكتاب، المخالفون له، المتفقون علي مفارقته: فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه، وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات التي لا يجوز اتباعها، بل يتعين حملها علي ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه، أوالإعراض عنها وترك التدبر لها ".
"درء تعارض العقل والنقل" (1/ 73 - 77).
رابعاً:
إذا وقع الاستفصال عن المعنى، ورددنا محل النزاع إلى كتاب وسنة رسوله: ساغ استخدام اللفظ الحادث، للدلالة على معنى ثابت، عند من يحتاج إلى ذلك.
قال شيخ الإسلام:
" اذا أثبت الرجل معنى حقا، ونفى معنى باطلا، واحتاج إلى التعبير عن ذلك بعبارة لأجل إفهام المخاطب، لأنها من لغة المخاطب ونحو ذلك: لم يكن ذلك منهيا عنه؛ لأن ذلك يكون من باب ترجمة أسمائه وآياته بلغة أخرى، ليفهم أهل تلك اللغة معاني كلامه وأسمائه، وهذا جائز، بل مستحب أحيانا، بل واجب أحيانا. وإن لم يكن ذلك مشروعا على الإطلاق؛ كمخاطبة أهل هذه الاصطلاحات الخاصة في أسماء الله وصفاته وأصول الدين باصطلاحهم الخاص، إذا كانت المعاني التي تبيَّن لهم هي معاني القرآن والسنة، ... وهذه الترجمة تجوز لإفهام المخاطب، بلا نزاع بين العلماء ". انتهى.
بيان تلبيس الجهمية (2/ 389).
خامسا:
من هذا الباب لفظ " الحد " المذكور في السؤال؛ فمن أراد بإثبات الحد، أنه سبحانه وتعالى بائن عن خلقه بحد فاصل، بين الخالق والمخلوق، فلا يحل شيء من المخلوقات بذاته جل جلاله، كما أنه لا يحل بشيء من خلقه ولا يتّحد به: فهذا معنى صحيح، يُخْبَر به عن الله تعالى، وإن لم يكن صفة ثبوتية، تضاف إليه سبحانه.
قال شيخ الإسلام:
" ولما كان الجهمية يقولون ما مضمونه: إن الخالقَ لا يتميّز عن الخلقِ، فيجحدون صفاته التي يتميّز بها، ويجحدون قدره، فبيّن ابن المبارك أنّ الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه، منفصلٌ عنه، وذكر الحدّ لأن الجهمية كانوا يقولون: ليس له حدٌّ، وما لا حدّ له لا يباينُ المخلوقاتِ، ولا يكون فوق العالم، لأن ذلك مستلزم للحدِّ، فلما سألوا أمير المؤمنين عبد الله بن المبارك: بماذا نعرفه؟ قال: بأنه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، فذكروا لازم ذلك الذي تنفيه الجهمية، وبنفيهم له ينفون ملزومه الذي هو وجوده فوق العرشِ، ومباينته للمخلوقات، فقالوا له: بحدٍّ؟ قال: بحدّ.".
انتهى باختصار. بيان تلبيس الجهمية (1/ 443).
وقال شيخ الإسلام أيضا:
" هذا اللفظ لم نثبت به صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة؛ بل بيّنّا به ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته لخلقه وثبوت حقيقته ".
"بيان تلبيس الجهمية" (1/ 445)
ومن هنا نتبين أن إطلاق جمع من السلف لهذا اللفظ كان ردا على الجهمية والحلولية وأشباههم من أهل البدعة، وبياناً لمعنى شرعي صحيح في نفس الأمر، وإن كان الشرع لم يعبر عنه بهذا اللفظ.
سادساً:
إثبات الحد لله تعالى، والإخبار به عنه: لا يعني أن الخلق يُحيطون به علماً، سبحانه، أو أنهم يعلمون منتهى ذلك الحد، قال تعالى: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) طه/110، وقال: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء) البقرة/255.
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله:
" والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره، ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن يؤمن بالحد، ويَكِل علم ذلك إلى الله.
ولمكانه أيضا حد، وهو على عرشه فوق سماواته.
فهذان حدان اثنان ". انتهى.
¥