ـ ثم قال ـ “ واعلم أن بعد التوغل في هذه المضائق، والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق رأيت الأصوب والأصلح في هذا الباب طريقة القرآن العظيم والفرقان الكريم، وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام أجسام السموات والأرضين على وجود رب العالمين، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل ... “ (772).
3ـ وفي وصيته المشهورة قال فيها: “ لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن “ ثم قال: “ ديني متابعة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما “ (773).
سادساً: أثره فيمن جاء بعده:
ويمكن أن يلاحظ ذلك فيما يلي:
أ ـ أن من جاء بعده من الأشاعرة اعتمد ـ في تقرير أصول المذهب الأشعري ـ على ما كتبه الرازي، لأنه استقصى ما يمكن أن يقال مما جاء به المتقدمون من الأشاعرة وزاد على ذلك، ومن ثم أصبحت كتبه مصادر ميسرة ومستوعبة لأدلة الأشاعرة في تقرير مذهبهم والرد على خصومهم.
ب ـ كانت للرازي اجتهادات في المذهب الأشعري، وصلت إلى حد القرب من المعتزلة أحياناً، والرد على أدلة الأشاعرة وتضعيفها أحياناً أخرى، مع النقد لأعلام الأشاعرة في مناسبات مختلفة، ومن الأمثلة على ذلك.
1 ـ نقده للغزالي، وللبغدادي، وللشهرستاني، وقد جاء نقده لهؤلاء في مناظراته في بلاد ما وراء النهر (774).
2ـ وفي مسألة الرؤية ضعف دليل الأشاعرة العقلي، واقتصر في إثباتها على السمع (775) ـ وقد سبقت الإشارة إلى هذا عند الحديث عن الماتريدية ـ.
3ـ كما نقد دليل الأشاعرة على إثبات صفة السمع والبصر ـ وقد مرَّ قريباً ـ.
4ـ وكذا في صفة المحبة بين ـ كما تقدم ـ أنه لا دليل لهم على تأويلها بالإرادة.
5ـ وفي حصرهم الصفات الثابتة بسبع نقدهم نقدا قويا كما سلف.
6ـ أما في صفة الكلام، فيعتبر الرازي من الذين ناقشوا حقيقة الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة، وقد ضعف أدلة الأشاعرة العقلية لإثبات هذه الصفة (776)، بل بين أن منازعة الأشاعرة للمعتزلة في هذه المسألة ضعيفة (777)، وصرح بأن الحروف والأصوات محدثة (778).
7ـ اعتذاره لنفاة الصفات بأنهم أرادوا بنفيها إثبات كمال الوحدانية لله تعالى (779)، بل مال إلى مذهب المعتزلة في الصفات حين رد صفتي الإرادة والقدرة إلى صفة العلم (780).
8 ـ كما نقد الاستدلال بالإحكام والإتقان على العلم، وهو من أدلة الأشاعرة المشهورة (781).
9ـ دافع عن تكفير المعتزلة والخوارج والروافض، وناقش الأوجه التي كفر بها بعضهم بعضاً، ومن ذلك تكفير الأشاعرة لغيرهم (782)، وفي مسألة الجهل بصفات الله رجح أنه لا يكفر الجاهل بها، وعلل ذلك بأنه يلزم منه تكفير كثير من أئمة الأشعرية بسبب خلافهم في إثبات الصفات (783)، كما رجح أن أهل التقليد ناجون خلافاً لكثير من الأشعرية (784)، وليس المقصود هنا تصويب الرازي أو تخطئته في هذه الأمور التي قرب فيها من منهج أهل السنة، وإنما المقصود أنه خالف فيها كثيراً من شيوخه الأشاعرة.
10ـ تصريحه بالجبر في مسألة القدر ـ كما تقدم ـ وذلك خلافاً لشيوخه الذين ينكرون أن يكون قولهم بالكسب يؤدي إلى الجبر.
إلى غيرها من المسائل، التي كان للرازي فيها تأثير فيمن جاء بعده، وذلك بالبعد عن منهج السلف والقرب من بعض فرق الضلال كالمعتزلة وغيرهم كما كان له أيضاً تأثير في وجود الترجيحات المخالفة لمذهب الأشاعرة.
جـ ـ ومن الآثار البارزة في المنهج متابعة من جاء بعده له في خلط علوم الفلسفة بعلم الكلام، يقول ابن خلدون: “ ولما وضع المتأخرون في علوم القوم [أي الفلاسفة] ودونوا فيها، ورد عليهم الغزالي ما رد منها، ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة، لعروضها في مباحثهم وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات، ومسائله بمسائلها، فصارت كأنها فن واحد، ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات، وخلطوهما فناً واحداً، قدموا الكلام في الأمور العامة، ثم أتبعوه بالجسمانيات وتوابعها، ثم بالروحانيات وتوابعها إلى آخر العلم، كما فعله ابن الخطيب في المباحث المشرقية، وجميع من بعده من علماء الكلام “ (785)، والمتتبع لكتب البيضاوي والتفتازاني والإيجي وغيرهم يلاحظ هذا المنهج واضحاً، حتى إن مباحث الإلهيات ـ وهي
¥