وكأن هناك شيئا مطموسا، (مردوماً) عليه يذكرهم به النبي، فهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يأتيهم بجديد ـ من حيث الجملة ـ وإنما فقط النبي مُذَكِر (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) [الغاشية:21]
.
وفي الشريحة الثالثة:
بيان أن كفر من كفر (6) ــ وخاصة الملأ (7) ـ لا يكون جهلا بل عنادا واستكبارا. فهذا فرعون. لم يتكلم يوما بأن موسى ـ عليه السلام ـ نبيا ولا أنه ليس بإله، ومع ذلك يقرر القرآن: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]
فهنا جملتان، خبرية ... وتعليلية، (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) لماذا؟ (ظلما وعلوا) أي ليس جهلا أو تكذيبا.
وقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 89 ـ 90]
هنا جملتان أيضا، خبرية تقريرية {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ} والثانية تعليلية لهذه الجملة الخبرية {بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}
(يقول بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تصديقه وَمُوَازَرَته ونصرته وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية " أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ") (8)
فكُفْرُ يهود لم يكن لجهلهم ولا لتكذيبهم. وإنما {بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}
وكذا حبر يهود (بلعام) الذي أتاه الله آياته فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاويين، ضلَّ بعدما عرف آيات الله.
فواضحٌ جدا من هذه الشرائح الثلاث أن أهل الباطل ــ عامتهم ومَن تولى كبره منهم ــ ليسوا على يقين من أمرهم، وإنما يخرصون، هناك شيء مطموس في قلوبهم يوارونه عن الناس ويغالبونه لشهوةِ جاه ـ كما الملأ، أو حقدٍ كما يهود، أو انشغال بأمور الرزق كما العامة في كل زمان ومكان.
هناك شيء مطموس تذكر به آيات الله المقروءة والمرئية. هذا الشيء هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، هو الإسلام بمفهومه العام، هو ما أودعه الله في النفوس بأن هذه الحياة ليست سدى وإنما ورائها ثواب وعقاب.
وهذا يقتضي الوقوف قليلا لبيان معنى الفطرة. فيما يختص بالإسلام.
الفطرة
بداية الإنسان هي النطفة الأمشاج (9) {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان: 2] التي تتكون من الحيوان المنوي والبويضة بعد التخصيب، هذه النطفة الأمشاج ـ بعد نفخ الروح فيها (10) ـ تحمل كل صفات الرجل النفسية والبدنية. هذا الطفل المولود تكون فيه جميع الصفات مركوزة بداخلة تظهر حين ينضج شيئا فشيئا، ففي البداية تظهر الحاجة للطعام والشراب، ومحبة من يداعب وبغض من يعبس ويكفهر، ثم يأتي حب اللعب، وعند البلوغ يأتي الميل للجنس الآخر دون أن يُعلمه أحد، أين كانت محبة النساء أو الرجال؟ هل تعلمها؟
لا. إنها فطرة مركوزة بداخله.
وكذا الإسلام بمعناه العام، فطرة مركوزة بداخل الإنسان بحيث لو ترك بدون عوارض فإنه يتعرف على ربه أو يستجيب من فوره حين يسمع داعية. ويدل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين وغيرِهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ)
¥