ثم يقول أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)
ونقل شارح سنن الترمذي الإجماع على أن معنى الفطرة هنا هو الإسلام، قال: [. وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ: " إِنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الْإِسْلَامُ ". قَالَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الْإِسْلَامُ , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وَبِحَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: " إِنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ " الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ فَزَادَ فِيهِ: حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ , فَظَهَرَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلَّةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ].
ويزيد الأمر بيانا ما جاء عند مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذات يوم في خُطبته ((أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا)) (11)
وجاء في شرح النووي للحديث (قوله تعالى: (وَإِنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاء كُلّهمْ) أَيْ: مُسْلِمِينَ , وَقِيلَ: طَاهِرِينَ مِنْ الْمَعَاصِي , وَقِيلَ: مُسْتَقِيمِينَ مُنِيبِينَ لِقَبُولِ الْهِدَايَة)، (وقد رواه غيره فزاد فيه " حنفاء مسلمين ") (12)
فالفطرة هي الإسلام، هذا ما فهمه الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم من النصوص الصريحة، هي قوة مركوزة في الإنسان تماما كقوة الشهوة، وحب ما ينفع والسعي في تحصيله وبغض ما يضر والسعي في دفعه. هي قوة تجعل المرء حين يسمع بالإسلام، وكأنه سمع به من قبل، وكأن داعيه يذكره بشيء عنده، ولذا جاءت النصوص تخاطب مَنْ لم يخاطبوا بالشرع من قبل تقول لهم (أفلا تذكرون) (لعلهم يتذكرون).
هي قوة لا تمحيها تربية الآباء لأبناءهم على الكفر بربهم، فتظل هناك في القلب تورث حسكة وتجعل العلم (بالباطل) ظنا، وحديث صاحبه ظنا كاذبا وحُسبانا باطلا.
ولعل هذا يفسر لك ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (13)
فمجرد السماع كاف، نعم كاف تماما لأن يقبل صاحبه على الداعي ينظر ما عنده، لماذا لأنه يلقى الفطرة المركوزة في جوف كل ولد آدم منذ خلقهم ربهم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (لأعراف:172)
ما فائدة الكلام في الفطرة من الناحية الدعوية؟
لهذا الكلام فوائد في الناحية الدعوية:
ـ منها أن الإسلام بمفهومه العام، الذي هو الاستسلام لله عز وجل، وإتباع المرسلين والعمل ليوم الدين قوة مركوزة في قلب كل إنسان. تحتاج فقط من يحركها. بتعريفها على ربها وما أعده للصالحين من عباده من ثواب، وما توعد به العاصين من عباده من عقاب.
¥