وهذا ما فهمه الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ إذ يقول معلقا على آية (ق): {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]: (أي: يقال للمعرض المكذب يوم القيامة هذا الكلام, توبيخا, ولوما وتعنيفا. أي: لقد كنت مكذبا بهذا, تاركا للعمل له فالآن كشفنا " عَنْكَ غِطَاءَكَ " الذي غطى قلبك, فكثر نومك, واستمر إعراضك) انتهى كلامه رحمه الله.
وقريب من هذا قول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [البقرة: من الآية 213] وقول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران: من الآية 19]. {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} الشورى: من الآية 14]
{وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [الجاثية: 17].
فالآيات تتكلم أن هناك نفوسا تتبع الهوى وتضل حين يتضح لها الحق، وذلك بغيا وحسدا.
يعرض على القلب ما نع فيمنع المعرفة بالله واليوم الآخر أن تنشأ أثرا في القلب (رغبة ورهبة) أو (رجاء وخشية).
قضية البعث والثواب والعقاب من الأمور المسلم بها عقلا قبل أن يكون شرعا، وصدق الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ قامت كل البراهين عليه. ولكن ليس كل من يعرف يتبع، وليس كل من يصدق يلتزم بما يُصدق به، بل تأتي العوارض من حب جاه ورياسة أو طلب شهوة بدنية أو نفسية فتمسك المعرفة.
وهاك بعض الصور لحال الناس بعد عرض الخبر عليهم.
هناك من يَكْذِبْ على نفسه أحيانا فيدعي أنه مُكذِّبٌ لم ير حقا كي يصدقه، وغالب هذا النوع هم المعرضون المنشغلون بأموالهم ونسائهم. فيكون قد سمع طرفا، فيرى أن الوحي سيأخذ من أمواله ومن أمْنه، وقد يضيق عليه في لذَّاته المحرمة، فينصرف عن الدّاعي إلى شهواته، ويتخذ من التكذيب ذريعة لعدم الإتباع. وقد يستغبي إن ألح عليه الداعي وجادله فكسر جداله كقوم شعيب عليه السلام {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} [هود: من الآية 91]. وإن كان لا يفهم خطابك فماذا ستفعل معه؟
اللهم أن تغير الخطاب. أو تنصرف وتتركه.!!
وهناك من يعْنِد فيتكلم بأن مذهب المخالف هو الحق ويعلن العصيان بل ويحاربه، وهذا حال الملأ أرباب السلطان وأشباههم من المجرمين أرباب الأقلام، الذين ينظرون لباطلهم. ولا تقصر الصورة على قريش وحدها أو يهود أو نصارى نجران، هي نفسية تتكرر في كل زمان ومكان.
وبعضهم من يكون ضعيفا كَبُرَ العبيد في حسِّه فمشى ورائهم خوفا من سلطانهم أو طلبا لما في أيديهم.
وهناك من يكون مصدقا محبا لم ترقَ محبته لفصم أواصر الجاهلية. كأبي طالب، وكالنفر من يهود الذين جاءوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقروا له بأنه نبي الله، ولكن لم يتبعوه مخافة قومهم. هؤلاء الخوف من قومهم أكبر في صدورهم من الخوف من عذاب الله. وكالنفر الذين أسلموا ولم يهاجروا ثم خرجوا يوم بدر في صفوف الكافرين وهم (مؤمنين) (15)، ومن هاجروا ثم انقلبوا إلى مكة (16).
وهناك المنافقون، يصدقون، ويبغضون، وظاهرا يتبعون، وإن وجدوا عدوا غازيا ينقلبون ويحاربون. وهي نفوس مريضة تخشى الدوائر وتطلب السلامة في أبدانها وأموالها ولذا تتبع من غلب، وتصل حبال المودة مع كل من غلب.
والمقصود أن هذه الحالات جميعها لا تتبع ما تصدقه، تنقلب شهواتهم على ما في قلوبهم حتى تكاد تطمسه، تتركه صغيرا منزويا يتقلب من حين إلى حين، وتبقى الشخصية كما وصفها خالقها (في شك منه مريب) (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس).
والسبب الرئيس وراء ذلك كله، هو الجهل بيوم الدين، وما فيه من ثواب وعقاب، والغفلة عن مصارع الظالمين، وليس هذا من عندي بل هو قول ربي العليم الحكيم، وتدبر:
: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22]
¥