ومنه استنتج د. لطف الله: انتفاء النسبة ما بين التصوف والصوف، وأن الصوفية لم يشتهروا بلبس الصوفِ، بل لم يُعرفوا بهذا اللباس، لا قديماً ولا حديثًا. ثم ذكر أن هذه شهادة خطيرة –حسب تعبير لطف الله- تنقض قول من ادعى أن الصوفية اشتهروا بلباس الصوف.
وللتعليق على الدليل الأول أقول:
أولاً: القشيري لم يقل: إن الصوفية (لم يشتهروا بلبس الصوف) أو إن الصوفية (لم يُعرفوا بهذا اللباس)، بل قالَ إنهم (لم يختصوا بلبس الصوف). وفرقٌ كبيرٌ بين التعبيرين. فالصوفية كانوا معروفين مشهورين بلباس الصوف منذ القدم. لكن القشيري يريد أن يقولَ إن لبس الصوف ليس خاصاً بهم. بل هو لباسٌ يشاركهم فيه غيرهم. فمن الخطأ أن يأتي الأخ لطف الله ليجعل عبارة القشيري دالةً على أن الصوفية "لم يشتهروا بلبس الصوف". ومقام القشيري في التصوف يبعد معه أن يجهل شهرة الصوفية بذلك.
قد يتصف فرد أو طائفة بصفة ويشتهر بها، حتى مع مشاركة غيره فيها. لكن شهرته بها تكون لمعنى خاصٍ استوجب ذلك، كما هو الحال بالنسبة للصوفية، إذ كانوا يلبسون الصوف هم وغيرهم. لكنهم اشتهروا به، لتعبدهم بلبسه، و لملازمتهم له عمداً بقصد التقشف وخشونة العيش.
ثانياً: لو فُرض أن القشيري أراد المعنى الذي قصده د. لطف الله. فإن انفراده بهذا الرأي بلا دليلٍ فهذا يكفي لعدم قبوله، وردِّه عليه، لأنَّ قوله المنفرد يقابل قول أغلب أئمة الصوفية وغيرهم، حيث قرروا خلاف ذلك، والعدول عن المشهور والمستفيض والمقرر إلى رأي فردٍ بلا دليل؛ تحكم لا يجوز.
ولأن الواضحات لم تعد واضحات، فسوف أسوق القليل من الكثير من تقريرات كبار أئمة الصوفية قبل القشيري وبعده، وتقريرات غيرهم من المؤرخين والعلماء المراقبين حال الصوفية في عصورهم.
[1] السابقون على القشيري.
أول مصدر يُطالعنا هنا هو أعظم وأقدم سفر لتأريخ التصوف، وهو كتاب (اللمع) لأبي نصر السراج الطوسي (378هـ).
قال شيخ الصوفية المعاصر (عبدالحليم محمود): (السراج الطوسي أعظم مؤرخ صوفي في تاريخنا قديمه وحديثه، هو بحق أكبر المؤلفين الصوفيين، وأستاذهم جميعًا بلا استثناء، هو الكتاب الأم في تاريخ التصوف الإسلامي، هو أقدم مرجع صوفي إسلامي، وهو فوق هذا أكبر هذه المراجع وأوثقها وأغزرها مادة، وأنقاها جوهرًا ولفظًا، ومن مادته الخصبة اقتبس كافة من أرخ للتصوف).
وبعد هذا الثناء الوافر، أنقلُ ما قاله هذا الإمام الصوفي، قال تحت باب اسمه (الكشف عن اسم الصوفية، ولم سموا بهذا الاسم، ولم نسبوا إلى هذه اللبسة).
فكما تلاحظ من عنوان الباب يظهر رأي إمامِ الصوفية هذا.
ثم نكمل معه، حيث يقول: (نسبتهم إلى ظاهر اللبسة، لأن لبسة الصوف دأب الأنبياء عليهم السلام وشعار الأولياء والأصفياء، ويكثر في ذلك الروايات والأخبار).
ثم قال: (الصوفية عندي، والله أعلم، نُسبوا إلى ظاهر اللباس .. لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام والصديقين وشعار المساكين المتنسكين).
أما المصدر الثاني فهو كتاب (التعرف لمذهب أهل التصوف) لأبي بكر الكلاباذي (380هـ). فقد قال: (ومن لبسهم وزيهم سُموا صوفيَّة). وقال: (الصوف لباس الأنبياء وزي الأولياء). ثم ساق الروايات في فضل لباس الصوف.
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: (أخبرني أبو علي عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن فضالة النيسابوري بالري قال سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن سعيد السرخسي ببخارى يقول سئل أبو علي الروذباري (322 هـ) –صاحب الجنيد- فقيل له: من الصوفي؟ فقال: من لبس الصوف على الصفا).
وقال الحكيم الترمذي) 360هـ (في (النوادر):) فعلى هذا المثال عَامَلت متزهدة زماننا، سَمِعَت أنه مضى في السلف الصالح من الصحابة والتابعين قوم اجتزوا بالدون من الحال فلبسوا الصوف والخلقان و أكلوا النخالة وامتنعوا من الشهوات .. فخلف من بعدهم خلف اتبعوهم فيما ابتدعوه وهم غير صادقين فيها فأقبلوا على لبس الصوف والخلقان وأكل النخالة والخبز المتكرج يريدون بذلك إظهار الزهد وقلوبهم مشحونة بشهوات الدنيا).
ونقل الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي (360هـ) في (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) عن ابن المبارك وكذا في (تاريخ بغداد) أنه قال يعاتب أحد العباد:
أيها القارئ الذي لبس الصوف ... وأمسى يعد في الزهاد
¥