قال القرطبي: واختلف أيضا هل كان ذلك السجود خاصا بآدم عليه السلام فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى أم كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام لقوله تعالى: {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا} فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين؟ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسول الله ر وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد فقال لهم:لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين روى ابن ماجة في سننه و البستي في صحيحه [عن عبد الله بن أبي أوفى قال: لما قدم معاذ بن جبل – ثم ذكر حديث معاذ).أ. هـ
ويقول القرطبي رحمه الله: " المسألة الثانية: قال سعيد بن جبير عن قتادة عن الحسن في قوله: " وخروا له سجداً "، قال: لم يكن سجوداً، لكنه كان سنة كانت فيهم، يومئون برؤوسهم إيماء، كذلك كانت تحيتهم.
وقال الثوري والضحاك وغيرهما: كان سجوداً كالسجود المعهود عندنا، وهو كان تحيتهم وقيل: كان انحناء كالركوع، ولم يكن خروراً علي الأرض، وجعل الكلام بدلاً عن الانحناء، واجمع المفسرون أن ذلك السجود علي أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة " (12).
ويقول ابن تيمية رحمه الله:
" وأما السجود فشريعة من الشرائع إذ أمرنا الله – تعالي – أن نسجد له، ولو أمرنا أن نسجد لأحد من خلقه غيره لسجدنا لذلك الغير، طاعة لله عز وجل، إذ أحب أن نعظم من سجدنا له، ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب البتة فعله، فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له، وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتكريم، وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام، ألا تري أن يوسف لو سجد لأبويه تحية لم يكره له " (13).
يقول الحافظ أبو بكر الجصاص الحنفي في كتابه أحكام القرآن: " ويشبه أن يكون قد كان باقياً إلي زمن يوسف عليه السلام، فكان فيما بينهم لمن يستحق ضرباً من التعظيم، ويراد إكرامه وتبجيله، بمنزلة المصافحة والمعانقة فيما بيننا، وبمنزلة تقبيل اليد، وقد روي عن النبي صلي الله عليه وسلم في إباحة تقبيل اليد أخبار، وقد روي الكراهة، إلا أن السجود لغير الله تعالي علي وجه التكرمة والتحية منسوخ بما روته عائشة وجابر بن عبد الله وأنس أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " (14).
فقول الإمام الجصاص رحمه الله: " منسوخ بما روته عائشة وجابر وأنس ": إشارة إلي أن الناسخ لسجود التحية الذي كان مباحاً هو حديث معاذ، وإن اختلفت الألفاظ، فهذا دليل علي أن الفعل كان سائغاً مباحاً حتى وقت أن سجد معاذ للنبي صلي الله عليه وسلم إلي وقت التحية فنهاه عن ذلك.
وقد ذكر الإمام القرطبي في تفسيره أن قول الأكثرين من العلماء أن السجود لغير الله علي وجه التحية كان مباحاً إلي عصر الرسول صلي الله عليه وسلم، ثم ذكر الحديث الناسخ لهذه الإباحة، وهو نفس الحديث الذي وقعت فيه حادثة معاذ.
قال رحمه الله: " والأكثر أنه كان مباحاً إلي عصر الرسول صلي الله عليه وسلم " (15).
وقاله ابن تيمية ولا يجوز أن يتنفل على طريق العبادة إلا لله وحده لا لشمس ولا لقمر ولا لملك ولا لنبي ولا صالح ولا لقبر نبي ولا صالح هذا في جميع ملل الأنبياء وقد ذكر ذلك في شريعتنا حتى نهى أن يتنفل على وجه التحية والإكرام للمخلوقات ولهذا نهى النبي معاذاً يسجد له وقال ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها ونهى عن الإنحناء في التحية ونهاهم أن يقوموا خلفه في الصلاة وهو قاعد. أ. هـ (16)
فتبين لك من كلام العلماء الأعلام أن النوع الثاني من السجود – وهو سجود التحية – كان مباحاً سائغاً في شريعة من قبلنا حتى نسخ في شريعتنا، والناسخ له هو حديث معاذ كما سيتبين لك ذلك من أقاويل العلماء، فما فعله معاذ لا يعدو أن يكون فعلا مباحاً سائغاً في شرائع من قبلنا، وليس فعلاً كفرياً حتى نقول أنه قد ارتكب الشرك جاهلا فعذر بالجهالة.
بل هو الذي عليه جمهور أهل العلم بلا خلاف ولا نزاع بينهم أن هذا السجود من معاذ رضي الله عنه كان سجود تحية لا سجود عبادة.
وعلامة هذا النوع من السجود أن يبذل علي نحو التوقير والتحية لا علي سبيل التدين (17) وقد وقع في تاريخ الإسلام مثل هذه الأمور من بعض ملوك المسلمين (18) فكانت موضع الذم. ولم يكفر الفاعل لعدم بذلها علي سبيل التدين والعبادة لغير الله ولكن علي سبيل التحية، المنهي عنها حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم. فإذا كان الأمر كذلك.
فهل كان سجود معاذ لرسول الله ر من قبيل سجود العبادة أم التحية؟ (19)
إن الحديث الشريف ليدلنا من صريح منطوقة أن معاذاً أتي الشام فوجد اليهود والنصارى يفعلون هذا لعلمائهم وأكابرهم ولما سألهم عن هذا قالوا: هذه تحية الأنبياء، قال: فنحن أحق أن نصنع بنبينا صلى الله عليه و سلم.
نعم هكذا قالوا إنها تحية الأنبياء. فاعتبر معاذ بن جبل أن رسول اللهر أحق بها لأنها تحية الأنبياء ولم يكن قد نهي عنها هو ولا غيره من المسلمين.
فسبحان الله، هذا هو الحديث بصريح منطوقة، وهذا الصحابي الجليل معاذ بن جبل: نسبه أهل الباطل إلي الجهل، وقال عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه إمام العلماء يوم القيامة.
- ونسبه أهل الباطل إلي الشرك، وصريح الحديث أنه فعل ذلك علي سبيل التحية لرسول الله صلى الله عليه و سلم لأنها تحية الأنبياء ولم يكن قد نهي عنها بعد اهـ
و الله أعلم
¥