ثم قال ابن السمعاني: من عمل بهذا الحديث فقد حاز الثواب، وأمن من العقاب، لأن من أدى الفرائض، واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عما غاب عنه، فقد استوفى أقسام الفضل، أو وفى حقوق الدين، لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث. انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين ج1 ص 294 ما نصه: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أن كل ما سكت عن إيجابه أو تحريمه فهو عفو، عفا عنه لعباده مباح إباحة العفو، فلا يجوز تحريمه ولا إيجابه، قياسا على ما أوجبه أو حرمه بجامع بينهما، فإن ذلك يستلزم رفع هذا القسم بالكلية وإلغاءه، إذ المسكوت عنه لابد أن يكون بينه وبين المحرم شبه ووصف جامع، أو بينه وبين الواجب، فلو جاز إلحاقه به لم يكن هناك قسم قد عفا عنه، ولم يكن ما سكت عنه قد عفا عنه، بل يكون ما سكت عنه قد حرمه قياسا على ما حرمه، وهذا لا سبيل إلى دفعه، وحينئذ فيكون تحريم ما سكت عنه تبديلا لحكمه، وقد ذم تعالى من بدل غير القول الذي أمر به، فمن بدل غير الحكم الذي شرع له فهو أولى بالذم. إهـ.
قال محمد تقي الدين الهلالي: قد اتضح مما تقدم أن عندنا قاعدة من أصول الفقه مبنية على نص المعصوم صلى الله عليه وسلم، وعلى البراءة الأصلية، فالأصل في كل العقود الإباحة حتى يقوم دليل على المنع، ولما لم أجد نصا في هذه المسألة عزمت على أن أقول فيها برأيي واجتهادي، فإن كان صوابا فمن الله وحده، وإن كان خطأ فمني.
فكل عقد من عقود التأمين صدق عليه حد الربا أو الميسر فهو حرام، ولو أطبق عليه أهل الأرض، من الأوروبيين وغيرهم. وكل عقد سلم من ذلك فيما يظهر لنا فهو مباح، وسأورد من ذلك أمثلة:
الأول: التأمين على الصحة: وهو أن يدفع طالب التأمين قدرا معلوما في كل شهر أو في كل سنة إلى شركة التأمين، على أنه كلما مرض يقوم المِؤمِّن – بكسر الميم – بدفع ما يحتاجه إليه من العلاج كله أو بعضه حسب الاتفاق. وحقيقة هذه القضية أن يتبرع جماعة من الناس، كل منهم بمبلغ من المال، ويرصد ذلك المال ليعالج به كل من مرض من الجماعة، ومن لم يمرض فلا شيء له. والربح الذي يبقى للشركة يكون أجرا للمشرفين عليها والعاملين فيها، ولا يظهر لي أن في هذا شيئا من الربا أو الميسر.
الثاني: التأمين على السيارات: من كانت له سيارة في بلد تفرض حكومته التأمين على كل سيارة، وأي سيارة وجدت بلا تأمين يعاقب صاحبها، يجوز لصاحب السيارة أن يدفع واجب التأمين، لأنه لا يتمكن من استعمال السيارة إلا بذلك، ولأن ذلك ليس بربا ولا ميسر. وإذا كان التأمين تعويضا عن الخسائر التي تقع في المصادمات، أو احتراق السيارة، أو سرقتها، فكل ذلك تعاون محمود يدخل في قوله تعالى في سورة المائدة: {وتعاونوا على البر والتقوى} وإن كانت حكومة البلد لا تفرض ذلك، فهو جائز أو مندوب إليه بما تقدم.
الثالث: التأمين على احتراق مخازن التجارة: متى جرت عادة أهل بلد بالتأمين على مخازن التجارة، والسفن التي تحمل البضائع، والبضائع المرسلة في القطار، أو في الجو، أو في السيارات، فكل من كان ساكنا في ذلك البلد، ولم يدفع التأمين تكون بضاعته أو مخزنه أو سفينته عرضة للضياع مصادفة أو تعمدا، وكل ما أصابته جائحة يبقى وحده بلا معين، فهذا أيضا جائز.
ويدخل في ذلك من باب أخرى التأمين على ما يرسله الشخص في البريد و غيره لضمان سلامة وصوله، وإنما قلت من باب أخرى، لأنه داخل في عقود الإجارة.
الممنوع الذي يشبه القمار أو هو هو التأمين على الحياة
إذا كان المؤمِّن يضمن لشخص أن يعيش زمانا معينا، كثمانين سنة في مقابل مال يأخذه منه مشاهرة مثلا، فإن عاشها فليس له شيء، وإن مات دونها أعطى ورثته ما يتفقان عليه، يظهر لي أن العقد فاسد لأن معرفة طول العمر وقصره لا يعلمها إلا الله، لأنها من مفاتيح الغيب الخمس، فأشبهت القمار على سباق الخيل، أو نزول القمر، وكذلك التأمين على البصر إذا لم يقصد العلاج. بل قال المؤمِّن لطالب التأمين: تؤدي إلي مقدارا من المال منجما وأضمن لك صحة بصرك، فإن ذهب بصرك دفعت لك كذا وكذا من المال، سواء أوقع ذلك بعرض أو بحادث من الحوادث، فهذا العقد فاسد لأن المؤمِّن جاهل بما يصيب بصر طالب التأمين. ومثل ذلك يقال في التأمين على اليدين و الرجلين، والمعدة والقلب والدماغ و غير ذلك من الأعضاء، إلا أن يكون ذلك على سبيل العلاج كما تقدم. وأيضا، فإن هذه الأمور لا تدعو إليها ضرورة كما تدعو إلى القسم الأول المباح.
كتبت هذا وأنا كاره له خوفا من أن أحل ما حرم الله، أو أحرم ما أحل الله، فإن المفتي موقِّع عن الله، فهو على خطر عظيم حين يفتي برأيه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
المدينة المنورة
وللمزيد من مقالات الشيخ هنا
http://www.alhilali.net/?c=3&p=2 (http://www.alhilali.net/?c=3&p=2)