و قد اتفق العلماء فى الجملة على وجوب الدعوة الى الله و ذلك لعموم قوله تعالى: (ادع الى سبيل ربك) – النحل: 125 – و قوله سبحانه: (و ادع الى ربك) - القصص: 87 – ثم اختلفوا فى نوعية الوجوب هل هو على التعيين ام على الكفاية؟ و لكل ادلة قوية و منهم من رجح القول الاول و منهم من رجح القول الثانى و مع كون ادلة الفريق الثانى اظهر و اقوى الا ان ثمرة الخلاف العملية قليلة و ذلك لاتفاق الفريقين على اصل الوجوب و لاتفاق القائلين بالوجوب الكفائى على انه اذا لم تحصل الكفاية اثم جميع القادرين كل بحسبه و كذا فان القائلين بفرض العين قيدوا الوجوب بالاستطاعة فمن لم يكن عالما بحكم المنكر لم يعد مستطيعا اتفاقا , و من كان عاجزا عن التغيير فقد سقط عنه الوجوب اذ مناط الوجوب هو القدرة فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما اسنطعتم) – التغابن: 16 – و قوله صلى الله عليه وسلم:
" اذا امرتكم بامر فأتوا منه ما استطعتم " اخرجه البخارى و مسلم.
و فى الجمع بين القولين قال شيخ الاسلام: " و كل واحد من الامة يجب عليه ان يقوم من الدعوة بما يقدر عليه اذا لم يقم به غيره فما قام به غيره سقط عنه و ما عجز لم يطالب به
كما يمكن الحمع بين القولين بتقسيم الدعوة الى خاصة و عامة فالخاصة فى بيت الرجل و بين اهله و فى سلطانه و هى واجب عينى لقوله صلى الله عليه و سلم: " كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته " اخرجه البخارى و مسلم.
و الدعوة العامة فى سائر المسلمين دعوة الى الخير و امر بالمعروف و نهى عن المنكر و هى واجب كفائى لقوله تعالى: (و لتكن منكم امة يدعون الى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر) – آل عمران: 104 –
و اخيرا فان تحقق الكفاية فى الدعوة اليوم امر متعذر و غير متيسر فدعوة المسلمين مجال رحب فسيح متجدد و اوسع منه و ارحب دعوة غير المسلمين الى الاسلام , كل ذلك فى عالم يموج بالفتن و تستحكم فيه الجهالة و يتسع فيه الخرق على الراقع.
و نظرا الى هذا فان الدعوة الى الله عز و جل اليوم اصبحت فرضا عاما و واجبا على جميع العلماء و على جميع الحكام الذين يدينون بالاسلام فرض عليهم ان يبلغوا دين الله حسب الطاقة و الامكان بالكتابة و الخطابة و بكل وسيلة استطاعوا , و الا يتقاعسوا عن ذلك او يتكلموا على زيد ا عمرو فان الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم الى التعاون و الاشتراك و التكاتف فى هذا الامر العظيم. و لا يرد على هذا الحكم بظاهر قوله تعالى
(يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم) – المائدة: 105 –
بجواز ترك الدعوة حال الهداية فان ترك الدعوة مخصوص بفساد الحال فى آخر الزمان حيث لا ثمرة و لا اثر للدعوة و الانكار لغلبة الشح المطاع و الهوى المتبع و اعجاب كل
ذى رأى برأيه كما ان الاهتداء المذكور فى الآية لا يتم الا بالقيام بالدعوة و الامر و النهى بل ان الآية لتدعو المؤمن الا يهاب و يرهب من دعوة الكافر و المنافق و الفاجر فانهم لن يضروه اذا كان مهتديا.
و لقد عالج الصديق رضى الله عنه هذا الفهم السقيم فقال: " يا ايها الناس انكم تقرؤن هذه الآية و تتأولونها على غير تأويلها و انى سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول:
" ان الناس اذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه اوشك الله ان يعمهم بعقاب من عنده "
رواه ابو داود و الترمذى و صححه الشيخ الالبانى.
و حال اهل العلم سلفا و خلفا الى يوم الناس هذا يدل على انهم لا يدفنون انفسهم بالعزلة عن نفع الناس بل و يرهبون عن ذلك.
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: " نرك اهل العلم لتبليغ الدين كترك اهل القتال للجهاد و ترك اهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك اهل العلم للتبليغ الواجب عليهم "
كما لا ينبغى ان يفت فى عضد اهل الدعوة انتفاش الباطل و انتشاره لأن الله انما كلفهم بالبلاغ و ليس بالهداية و لهم فى انبياء الله اسوة فان النبى من انبياء الله قد يأتى يوم القيامة و معه الرجل و الرجلان و قد يأتى ليس معه احد و لا يكون هذا عن تقصير فى الدعوة او اخلال بالبلاغ فان الهداية مسلمة الى الله تعالى وحده قال عز و جل:
(انك لا تهدى من احببت و لكن الله يهدى من يشاء) – القصص: 56 -
¥