فإذا كانت نهاية حوار هذا العالم مع نفسه أن يسأل توبة خالصة ونهضة صادقة، فما أحرى من هو دونه علماً وعملاً أن يسأل ذلك.
ونؤكد أن المسلم إذا طالت صحبته لسِيَر السلف استوحش من أهل زمانه وأنكر أسلوب حياتهم، وتعلق بالآفاق العالية التي حلق فيها أولئك الرجال العظماء النبغاء الموهوبون، فهو في كل ساعة مشغول بمنافستهم ومزاحمتهم، وكلما حل بمنزلة من منازل السير: تراءت له أخرى أعلى، وكلما دهمه كسل أو فتور: تذكر أنه في حلبة سباق، وأي تهاون أو تباطؤ سيلقي به في مؤخرة المتنافسين، ويزيده تشجيعاً: أن الاجتماع بهؤلاء السلف الصالح هو السير على نهجهم والتخلق بأخلاقهم.
إن الاقتباس من السِّيَر الناجحة والتجارب الموفقة في تطبيق الإسلام يحدث توبة متجددة في حياة المسلم، ويصحح من أوضاعه باستمرار.
الحافز الثامن: حقارة الإنسان بلا إيمان:
إن مما يزكي خطوات المسلم في طريق التوبة: علمه أن الإنسان بلا إيمان كائن تافه حقير، بل هو لا شيء، يولد ويحيا ويموت كما ولد ومات الملايين من أمثاله.
ها هو الليل والنهار قد صحبا قوم نوح وعاد وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً، فقرب بهما البعيد، وبلي بهما الجديد، وتحقق بهما الموعود، ولا زالا يسيران في الباقين سيرتهما في السابقين، أفيكون من التبصر والتعقل تعرض الإنسان الضعيف الفقير لهلاك الأبد ـ إذا أصر على الكفر أو المعصية، وأنفق أيام عمره فيما يغضب الله ويسخطه عليه ـ؟.
أيكون من التعقل أن يعرف الإنسان طريق الأمان ويظل شارداً عنه، والله (سبحانه) يفرح بتوبته ـ إذا تاب ـ كما يفرح المسافر الذي أضل راحلته حتى أوشك الهلاك جوعاً وعطشاً، فوجدها وعليها طعامه وشرابه؟.
كثير من الناس تتضخم عندهم ذواتهم، وتتحول إلى معبود يعبدونه من دون الله، فيظن أنه ذو شأن كبير بما عنده من أموال، أو ما يحمله من ألقاب، أو ما عنده من خدم وحشم وولد، وتخدعه الأعراض الزائلة، فيغفل عن البداية والنهاية، أو الميلاد والممات، وينسى أن ما أدركه من مال وجاه عَرَض حاضر، وعن قريب يزول، قال (تعالى): ((وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمََعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ)) [الهمزة: 1 4]، فمالُه لا يُخلده، بل مثله مثل سائر الناس يموت بأجَله؛ فيترك المال وراء ظهره، ويقدم على ربه وحده.
تضخم الذات وتحولها إلى محور لاهتمامات الشخص، واغتراره بالمكانة والجاه في بلده وقومه: موانع تحول دون الإنسان والتوبة، ولكنه متى علم أنه بلا إيمان كائن حقير، وأنه يموت فيرجع إلى ربه: طلب المكانة اللائقة به، بصفته مخلوقاً كريماً على الله الذي خلق كل شيء من أجله وخلقه لعبادته.
الحافز التاسع: العلاقة بين الإنسان والكون:
إن الإسلام ليس دين الإنسان فحسب، بل هو دين الكون كله، فالسماوات والأرض وما فيهما خاضع لكلمة الله الواحدة، وكل ما فيهما من كائنات علوية وسفلية مسلم لله عابد له بالكيفية التي تناسبه.
وأي مخالفة ـ مهما كانت هينة ـ تمثل شذوذاً عن كوْنٍ مسلم خاضع لربه مطيع لخالقه.
هذا الكون إبداع الخلاق العليم، والإنسان جزء منه، فالقوانين التي تحكم فطرته ليست بمعزل عن الناموس الذي يحكم الوجود كله، والله الذي خلق هذا الكون وخلق الإنسان، هو الذي سن للإنسان شريعة تنظم حياته تنظيماً متناسقاً مع طبيعته، فأي خروج عنها يعني التصادم مع الفطرة والكون.
وإذا كان الحفاظ على هذا الانسجام بين الفطرة والكون مطلباً عزيزاً؛ لكثرة أخطاء الإنسان وذنوبه: فإن الله (عز وجل) فتح باب التوبة، يدخله العبد كل وقت، فيجدد عهود الخلافة ويصحح ما كان قد انتقض منها، وفي بعض الآثار: أن الإنسان إذا أذنب الذنب تستأذن المخلوقات في إهلاكه، فيقال لها: لعله يتوب، لعله يتوب.
إن الإحساس بالرابطة التي تربطنا بالكون ـ وهي رابطة العبودية لله ـ هو الذي يدفع إلى الالتزام الصارم بأوامر الشريعة؛ لأنها توفق بين نظام الكون ونظام الفطرة، وتكون التوبة التي تعقب الذنوب أو تجدد الطاعات بمثابة المصالحة التي تعقب الخصام، أو القرب الذي يقرب التباعد والهجران.
¥