السابق إلى ذلك. وعن نصر ويحيى أخذ القراءة عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت 117ه)، وعلى عبد الله بن أبي اسحق عرض عيسى بن عمر الثقفي (ت 149هـ) وهو شيخ الخليل بن أحمد في العربية.
ومن ثم غطّى على جميع مَنْ تقدم الامام العلم أبو عمرو بن العلاء (ت 154ه) الذي يُعَدّ القِمّة التي انتهى إليها تطور حركة الاختيار، وما تشتمل عليه من أسس نقدية قبل حركة التأليف المنهجي وظهور الكتب الجامعة في القراءات وتحليلها. ومن بعد أبي عمرو قام صاحبه أبو محمد يحيى بن المبارك المعروف باليزيدي (ت 202ه) وعنه انتشرت قراءة أبي عمرو في الآفاق، واختار إلى جانب ذلك قراءة لنفسه. (14).
ويرتبط علم القراءات بنزول القرآن على سبعة أحرف، واذْنِ الرسول (ص) لكل قبيلة أن تؤدي ألفاظ التنزيل بلغتها لصعوبة تحولها إلى لسانٍ غير لسانها مما أدّى إلى اختلاف القراءات، وكثيراً ما كان اختلاف وجوه القراءة يؤدّي إلى اختلاف وجهات النظر في معاني اللفظ القرآني، وفق الوجه المختار، فمن القراء من وافق اختياره معنى اللفظ وأبقى عليه، ومنهم من خالف اختياره معنى اللفظ ووجه إلى معنى آخر غير الأول، والأمثلة على ذلك كثيرة منها اختلاف القراء في قراءة قوله تعالى (وقُرّآناً فَرَقْنَاه لتَقرَأهُ على الناسِ على مُكْثٍ (15). فقرأتْهُ عامة قرّاء الأمصار "فَرَقْنَاه" بتخفيف الراء بمعنى أحكمناه وفصّلناه وبينّاه. وذكر عن ابن عباس أنّه كان يقرؤه بتشديد الراء (فرّقناه)، بمعنى نزّلناه شيئاً بعد شيء، آية بعد آية ..
قال الطبري: وأولى القراءتين بالصواب عندنا: القراءة الأولى، لأنها القراءة التي عليها الحُجة مجمعة، ولا يجوز خلافها فيما كانت عليه مجمعة من أمر الدين والقرآن (16).
ومنها اختلاف القراء في قراءة قوله تعالى: (آتوني زُبُرَ الحديد). (17)
فمن قرأه بالمدّ (آتوني) جعله من الاعطاء، ومَنْ قرأه (أتُوني) جعله من المجيء. والوجه أن يكون ها هنا من الإعطاء لأنه لو أراد المجيء، لأتى معه بالباء، كما قال تعالى: (وَأْتُوني بِأهْلِكُمْ أجْمَعِيْن). (18)
إن اختلاف القراء في قراءة هذه الحروف وأشباهها، دفع القرّاء إلى التماس معاني المفردات لدعم الوجه المختار، وتوجيهه، وتوضيحه، ممّا أدى بهم إلى أن يُسْهِموا في تفسيرِ مفرداتِ عدد غيرِ قليلٍ من مفردات القرآن.
3 - جهود الباحثين في لغات القرآن:
لعل أول من أُثِرَ عنه العمل في هذا الميدان اللغوي المتَّصل بألفاظ القرآن، الصحابي الجليل عبد الله بن عباس (ت 68ه). وفي مقدمة ما وصل إلينا من كتب لغات القرآن كتابه (اللغات في القرآن). (19)
والكتاب يلقي الضوء على لغات القبائل قبل الإسلام، ويحدد نسبة ما أخَذَ القرآن من ألفاظ كل قبيلة من هذه القبائل، ويبيّن ما تعني تلك الألفاظ في لغة القبيلة.
كما يلقي الضوء على ما وافق لغة العرب من الألفاظ التي قد يكون لفظها من لغة الفرس أو من اللغة الحبشية، أو اللغة النبطية، أو من اللغة السريانية، أو من اللغة القبطية (20).
ومَنْ يقف على عمل ابن عباس في هذا الكتاب يجد أنه كان يفسّر اللفظ القرآني بلغة إحدى القبائل أو لهجتها. ومن أمثلة ذلك، قوله تعالى: (إنْ تَرَكَ خَيْراً الوصية) (21)، يعني بالخير المال بلغة جرهم. وقوله تعالى: (ضَيِّقا حَرَجا) (22). يعني شاكّاً بلغة قريش. وقوله تعالى: (فَتَوَلَّى بِرُكنه). (23) يعني برهطه، بلغة كنانة. وقوله تعالى: (في يَوْمٍ ذي مَسْغَبَةٍ). (24) يعني ذي مجاعة بلغة هذيل. (25)
وألف في لغات القرآن عدد من علماء اللغة والتفسير، منهم مقاتل بن سليمان البلخي (ت 150ه) وهشام بن محمد الكلبي (ت 204ه)، والهيثم بن عدي (ت 209ه)، وأبو زكريا الفراء (ت 209ه) وأبو زيد الأنصاري (ت 215ه) وعبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216ه). (26) ويتضح مما سبق أن الباحثين في لغات القرآن أسهموا في تفسير مفردات القرآن وتوضيح دلالاته، من خلال تبيين معناها عند بعض القبائل العربية، أو من خلال بيان موافقتها للفظ من ألفاظ أجناس الأمم الأخرى، أو بيان أصلها غير العربي.
- 4جهود الباحثين في الوجوه والنظائر في القرآن:
¥