حكاية سحَّارة (8)
ـ[معاوية]ــــــــ[20 - 09 - 2006, 09:02 م]ـ
قراءة من كتاب خرافي
لعبد الله بن محمد الغذامي ....
8 - حكاية سحَّارة
- 1 -
مرّ على مدرستنا فترة طويلة قبل أن تتشرف بالناظر الجديد. وكما تعلمون فقد ترددت الإشاعات كثيرًا حول الأستاذ (طلاع الثنايا) أو (ابن جلا) كما هي كنيته، وكانت كلها تشير إلى أنه هو الناظر الجديد، غير أن سعادته عدل عن رغبته في مدرستنا حسبما سمعنا وآثر الذهاب إلى مدرسة في أرض السواد، ولقد سمعنا عنه هناك أخبارًا كثيرة جعلتنا نحمد الله إذ سلمت مدرستنا منه ومن حكاياته. ولقد جاء إلينا أستاذ لم نسمع عنه من قبل، وهو رجل وقور هادئ لا يحب الكلام ويرى أن قلة الكلام دلالة على رجاحة العقل، ولقد صار (الصمت) شعارًا يحث عليه السيد الناظر ويندبنا إليه ولا يضيق من شيء مثل ضيقه من صراخ الطلاب أثناء الفُسح، ولذا فقد اخترع كمامات خاصة يضعها على أذنيه كي لا يسمع أصوات التلاميذ، ووضع موظفًا بجانبه ليراقب الهاتف وليضبط له الوقت الذي يمكنه فيه نزع الكمامات.
ولقد حدثني مرّة عن إعجابه الشديد بشهرزاد لأنها لا تتكلم إلاّ حينما تهجع الكائنات وتهدأ الحياة من صخبها، وإذا ما تيقظت الحياة سكتت شهرزاد، ولقد قال لي إنه لم يتسلم إدارة مدرستنا إلاّ لكي يسعى إلى تحقيق نظريته التربوية في (الصمت) وذلك بأن يدرب الطلاب على الصمت إذا انبثق الضياء، لأن (الضياء) في نظر سعادته يكفي لكشف وإظهار مراد النفوس، ونظرة واحدة إلى الوجه تغني عن السؤال والجواب، ولا حاجة إلى الكلام في رأي سعادته إلاّ وقت الظلام حيث يحل اللسان محل العينين في تلمس علامات الحياة والأحياء.
- 2 -
ظل الأستاذ (حسون) مشغولاً بنظريته في الصمت، وصار يصرف وقته كله داخل معمل لغوي خاص يجرب فيه علاقة الصوت بالضوء والعتمة، ولذا فإنه ترك لي تصريف أمور المدرسة والطلاب. ولقد أوقعني هذا في حرج شديد حيث زادت علىَّ إلحاحات التلاميذ بأن أعلمهم بعض المهارات التي لا توجد في المنهج الدراسي، وظلوا يذكرونني باليوم الذي حلقنا فيه فوق شجرة السدر، وساعدهم الفتى (سمير) حيث اقترح عليَّ أن يشاركني في تدريب الطلاب على الطيران وقام بتحريض الطلاب الصغار وجعلهم يناشدونني ويطالبونني بالموافقة وزادت رجاءاتهم وتوسلاتهم زيادة لم أجد معها بدًّا من الموافقة شريطة أن يتم ذلك وقت العصر حينما يكون الأستاذ (حسون) بعيدًا عن المدرسة.
ـ[معاوية]ــــــــ[21 - 09 - 2006, 12:24 ص]ـ
- 3 -
بهذا انضبطت أمور مدرستنا ففي الصباح تسود نظرية سعادة الناظر في الصمت المطبق والاكتفاء بقراءة الوجوه وعلاماتها. وفي المساء (عصرًا) أجتمع أنا وسمير من جهة والتلاميذ من جهة ثانية حول شجرة السدر الضخمة التي تملأ فناء المدرسة وتبدأ دروس تعليم التلاميذ الطيران حيث يتسلق الواحد منهم أغصان السدرة واحدًا واحدًا فإذا بلغ الذروة أطلق بصره إلى السماء وتنفس بعمق حتى يملأ صدره ورئتيه ثم يطلق لسانه بصرخات متتابعات حتى يجد جسده قد شف ورهف وحينها تتساوى نداءاته مع ترددات أنفاسه فيطير تلقائيًا وكأنما هو عصفور مغرد.
ـ[معاوية]ــــــــ[21 - 09 - 2006, 12:43 ص]ـ
- 4 -
مرّت أيامنا جميلة وهادئة لا يكدرها سوى زيارات المفتشين المباغتة. وكنا قد وضعنا عددًا من الاحتياطات لتلافي الحرج مع أولئك المفتشين، وخصصنا بعض التلاميذ للوقوف على مشارف الطريق الموصل إلى المدرسة لينذرونا باقتراب أحد الغرباء، وكان هذا إجراءً وقائيًا نافعًا لولا أن حدث في إحدى المرات أن تربص بنا أحد المفتشين واختبأ على سطح إحدى العمارات المجاورة، وهاله ما رأى في تلك العصرية، حيث شاهد تلاميذا صغارًا يتطايرون فرحين جذلين من فوق شجرة السدر الباسقة، وأخذ صورًا للمنظر أرفقها بتقرير قدمه إلى الأستاذ (حسون) ناظر مدرستنا. فقامت قيامة السيد الناظر وغضب غضبًا شديدًا واتخذ قرارًا بأن يتولى هو بنفسه الإشراف على أنشطة الطلاب في العصر. وكان أول عمل قام به هو أن اشترى كمامات مطاطية يضعها على أفواه الطلاب لكي يمنعهم من (الصراخ)، لأن الصراخ مدعاة للجنون، وهذا هو ما جعل عقول الطلاب تخف وتضمحل فتضعف أجسادهم وتتلاشى إلى درجة أنها صارت تتطاير هباء من فوق السدرة ـ كما يقول ويؤكد الأستاذ حسون ـ.
- 5 -
زاد ضغط السيد الناظر علينا في مسألة الكلام وخطره على الأبدان، وصار يعرض صور التلاميذ وهم يطيرون بوصفها شاهدًا على خطورة الانفعال اللفظي على الآدمي. وصار يحثنا على قبول نظريته في (الصمت)، وألزمنا بتدريس النظرية في المنهج التعليمي وتدريب الطلاب عليها حتى صار الجميع يتصرفون وكأنهم خُرس بُكم، وصارت الدرجات تمنح حسب الامتناع عن الكلام، وكل مرة يغلط فيها أحد الطلاب ويتفوه بكلمة فإن كل كلمة بناقص علامة، والأبكم هو من ينال درجة الامتياز، وفي ذلك الفصل لم يرسب سوى الطلاب الذين تكلموا وكان عددهم ثلاثة من بين أربعمائة طالب. وهذا ما جعل الأستاذ الناظر يعلن عن نجاح نظريته وعقد حفلاً كبيرًا مارسنا جميعنا أثناءه الصمت المطبق واكتفينا بتبادل النظرات والإيماءات.
...
انتهت الحكاية الثامنة