حكاية سحَّارة (6) " المعلم مسعود "
ـ[معاوية]ــــــــ[19 - 09 - 2006, 01:52 م]ـ
قراءة من كتاب خرافي
لعبد الله بن محمد الغذامي ....
6 - حكاية سحَّارة
- 1 -
خرجت يوم السبت مسرعًا. فقد كنت حريصًا على أن أثبت للسيد ناظر المدرسة أنني لست مهملاً ولست - كما يظنني - رجلاً لا أهتم بمسؤوليتي الأخلاقية والوظيفية.
كانت هذه نيتي حينما تناولت إفطاري بسرعة ولبست ملابسي وأنا أهبط من سلم الدار، ولم يك في حسباني قط أي شيء مما حدث في ذلك اليوم العجيب، يوم السبت الأول من نيسان 1994.
- 2 -
كنت أقود سيارتي بسرعة شديدة متجهًا عبر شارع (التخصصي) وحينما اقتربت من جسر (العروبة) لاحظت أن السيارات تعود القهقرى وكأنهم يهربون من شيء تحت الجسر، ولقد تعجبت من حركتهم هذه ولم أفكر قط أن أفعل مثلهم وواصلت المسير لأجد نفسي وجهًا لوجه مع بحيرة ماء تمتد من تحت الجسر إلى مد البصر جنوبًا. كانت ماء صافيًا وشمسًا مشرقة وزرقة خلابة. وطار عقلي ما بين الفرح بمنظر البحيرة والتوجس من التأخر عن موعدي في المدرسة، وما يمكن أن يقوله السيد ناظر المدرسة عني وعن إهمالي. ولهذا فإنني قررت تحويل سيارتي إلى (قارب) بحري أخوض به غمار المياه فأستمتع برحلة بحرية جاءت هبة لي من الله في هذا الصباح المبارك. وفي الوقت ذاته أقطع الطريق بسرعة معقولة لأصل إلى المدرسة في الوقت المحدد. غير أن رجال المرور قابلوني على مدخل البحيرة - تحت الجسر - وأمروني بالعودة ونهروني بشراسة وغلظة كغيري من أصحاب السيارات الذين عادوا دون جدال ولا سؤال.
- 3 -
احتجت إلى عبور شوارع فرعية كثيرة لكي أعود إلى مساري الطبيعي في شارع (التخصصي) وحينما وصلت إلى الطرف الجنوبي من الشارع لاحظت وجود شاطئ جميل تغطيه الرمال الحمراء وتحفه مياه البحيرة الزرقاء الصافية وينتشر عليه الصيادون والسباحون وجماعات من الأطفال الذين يلعبون ويطربون على هذا الشاطئ الساحر، شاطئ خلاب في وسط شارع التخصصي في قلب مدينة الرياض وكأنه (حلم الرمال الهاجعات على الظما) حسب عبارات أبي ريشة.
أوقفت سيارتي وانطلقت فرحًا محبورًا ألاحق حبات الرمل وذرات المياه المتطايرة مع نسمات الهواء الندي: هواء ندي في قلب الجفاف ... !!
تركت رئتيَّ تنطلقان مثل انطلاق قدمي ورحت أخوض في المياه وأحاول اصطياد السمك. ولقد أفلحت في اصطياد سمكة شقراء (أو حمراء) أظنها من نوع (الصافي) كما يسمونها في الخليج.
ولقد غالبت نفسي وغالبتني كثيرًا كي أنتزع جسدي من هذا الندى البهي وأتوجه إلى المدرسة ومعي السمكة (الصافية).
- 4 -
كان التهجم والغلظة والجفاف هو ما لقيته من السيد ناظر المدرسة الذي لم يصدق حكايتي ولم يطرب لها ولم يبتسم لسماع الخبر. وأمرني فورًا بالتوجه إلى الفصل والشروع بتدريس التلاميذ، وأخذ السمكة مني وأعطاها للفراش كي يعطيها للقطط التي تحوم في الشارع الخلفي للمدرسة.
ولقد سمعته يقول للفراش إن هذا المجنون اشترى هذه السمكة من أحد محلات بيع الأسماك المنتشرة في شارع التخصصي. وسمعت الفراش يرد عليه قائلاً: نعم يا أستاذ إن مجنوننا هذا يبتكر حيلة لكل حكاية من حكاياته لكي يبرر تأخره عن الدوام وكسله.
سمعتهما يقولان ذلك بصوت مرتفع وصلني صداه وأنا أدخل على الطلاب.
- 5 -
كانت مادتي مع الطلاب هي مادة (التعبير) ولذا فقد طلبت منهم أن يكتبوا موضوعًا عن (بحيرة) في الرياض، وحينما شرعت بإيضاح فكرة الموضوع وتحميس عقول الطلاب للفكرة واستثارة خيالهم، إذا بي أفاجأ بالسيد الناظر يدق باب الفصل ومعه ضابط مرور، ونظر إليَّ السيد الناظر بعيون ملؤها السخرية والضحك وقال لي: هذا الأخ الضابط جاء ليأخذك إلى مركز المرور لأنهم وجدوا سيارتك واقفة في وسط شارع التخصصي مما تسبب في إعاقة المرور وتعطيل السير. ولقد حاولت أن أشرح للسيد الناظر أن سيارتي لم تكن في وسط الشارع ولكنها كانت على طرف الشاطئ الرملي قبالة البحيرة النابتة تحت جسر (العروبة) في شارع (التخصصي). ولكن السيد الناظر اكتفى بالإشارة إلى الضابط وقال له: خذه إلى المركز وحاولوا أن توافونا بتقرير كامل عن الحادثة لنرفعه إلى الوزارة.
- 6 -
في مركز المرور وجدت مجموعة من الضباط حاولت أن أروي لهم قصتي وقصة البحيرة ولكنهم انفجروا في وجهي ما بين ضاحك وساخر ومؤنب ما عدا رئيسهم الذي أخذني إلى مكتبه وخلا بي وقال يا بني: هناك أشياء يحسن بنا ألاّ نكشفها للناس .. إنها قصصنا الخاصة وفلذات أرواحنا مما لا يصدقه سوانا .. إنها من المضنون به على غير أهله.
لقد فرحت بكلام السيد الضابط ووجدته ينزل علىَّ بردًا وسلامًا وتعجبت أن البدلة العسكرية والنجوم الحديدية لم تحجب عنه نور الحقيقة وصدق البصيرة، وتمنيت لو أنه جاء هو مكان السيد الناظر ليدير المدرسة.
ولقد شكرت السيد الضابط وودعته عائدًا إلى المدرسة وفي طريق خروجي من المركز رفعت يدي مسلمًا ومودعًا لمجموعة الضباط الذين تجمعوا حول طبق كبير من الفول وحوله طرائق التميز وصحن فيه طعام لعله (المعصوب) أو (الهريسة) نظروا إلىَّ نظرات فيها أشياء من التندر والسخرية، وقال لي أحدهم: تفضل كل معنا، ولكن أحد زملائه رد عليه وقال: اتركه إنه مستعجل كي يصطاد سمكًا من بحيرة التخصصي. بينما ترامى إلى سمعي همسة لأحدهم يصحح جملة صديقة ويقول: بحيرة شهار.
وحينها جاء رئيسهم وجرني من يدي وقادني إلى الباب الخارجي وسلمني مفاتيح سيارتي وهو يربت على كتفي ويقول لي: مع السلامة أيها المضنون به على غير أهله.
...
انتهت الحكاية السادسة