تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حكاية سحَّارة (10)

ـ[معاوية]ــــــــ[25 - 09 - 2006, 02:23 ص]ـ

.................................................................

قراءة من كتاب خرافي ..

.................................................................

لعبد الله بن محمد الغذامي ....

10 - حكاية سحَّارة

" من أوراق المعلم مسعود "

ـ 1 ـ

لعلي لم أقل لكم من قبل إن مبنى مدرستنا من الطين، وأنا أتذكر هذه المعلومة الآن اعتقادًا مني أن ذلك قد يفسر لنا شيئًا عن حقيقة هذا الكيان. فالطين عجينة طبيعية يتساوى فيها البشر مع المبنى، ولعل ما حدث لمدرستنا من ضيق مفاجئ في مبناها يعود لحالة نفسية يمر بها هذا المبنى وهي حالة تشير ـ بلا ريب ـ إلى تأزم داخلي ضاغط. ومن علامات ذلك أن شكل المبنى الخارجي عادي جدًا. عادي في منظره وفي حجمه، ولكن المبنى من داخله ضاق وتضايق حتى صار على حالة من الاختناق والضغط إلى حدّ يثير القلق والخوف.

ولقد ذهبت إلى الأستاذ حسون، ناظر المدرسة وتحدثت معه حول ما طرأ على مبنى مدرستنا من تغيرات محيرة، ولقد وجدت السيد الناظر في حالة من الضياع وفقدان البصيرة، ولقد ازداد خوفي واضطرابي حينما رأيته على تلك الحال. ذاك أنني كنت أظنه رجلاً رابط الجأش قوي الشكيمة، خاصة حينما يحدث حدث يقتضي رباطة الجأش وصلابة الوقفة.

والأستاذ حسون رجل حكيم ولا شكّ وهو رجل صبور بكل تأكيد .. هذا ما تقوله تصرفاته في سائر الأيام. ولم يكن ينقصه شيء سوى انغلاقه الشديد على نفسه وانصرافه التام عنا. فهو لا يخالطنا كثيرًا ولا يتشاور معنا فيما يحزبه من أمر. وكان بحثه في (نظرية الصمت) يأخذ منه كل وقته وجهده. وربما أمضى الليل والنهار داخل المختبر الصوتي يجرب أفكاره ونظريته على الآلات وفي جنح الظلام والصمت المطبق والعزلة القاطعة.

وحينما حلّ بمدرستنا ما حلّ لم يفكر الأستاذ حسون أن يجمعنا ويستأنس بنا ونستأنس به ونتشاور في الأمر. ولم يفكر أحد من المدرسين (أو الطلاب .. !) أن يفاتحه في الأمر، لأنهم قد تعودوا على ما سنّه لهم من قواعد في السلوك التربوي التي تقتضي عدم الكلام وتجنب القلق اللغوي والتوترات اللفظية. وكان هذا هو المسلك العام للجميع. وهو مسلك رضيناه وألفناه. لولا هذه الحادثة التي لم تدع لي أنا في الأقل مبررًا لمواصلة الصمت والاستمرار على آداب المدرسة وتعليمات السيد الناظر.

ولهذا فإنني قررت الذهاب إلى مكتب الأستاذ حسون، وذلك بعد أن قطعت كل حالات التردد والتخوف، وصرفت النظر عن كل الاحتمالات السلبية لزيارتي هذه.

ـ[معاوية]ــــــــ[25 - 09 - 2006, 01:13 م]ـ

ـ 2 ـ

ذهبت إلى مكتب الأستاذ حسون فوجدت الباب مغلقًا بإحكام شديد. ولم أستغرب ذلك بادئ ذي بدء ... فأنا أعرف حرص الأستاذ على الخصوصية والعزلة والانقطاع .. وقفت عند الباب منتظرًا سماع أي حركة من الداخل لعلها تشجعني على طرق الباب، غير أن الوقت طال ومرّ دون أن أسمع ما يوحي بوجود حياة أو أحياء خلف ذلك الباب الذي تقلص حجمه وانضغطت تقاطيعه وبدا وكأنما هو فتحة نافذة لا فتحة باب لأهم غرف المبنى وهي غرفة الإدارة.

ظللت واقفًا على الباب وقد تغشاني الحزن وضربتني الحسرة على هذه الحال التي آلت إليها مدرستنا، وأحسست أكثر وأكثر بما يمر به مبنى مدرستنا من أزمة تعصر روح المبنى وتدك معنوياته.

ها هو الطين يضيق ذرعًا بنفسه وبالطيَّان.

ها هي المدرسة تضيق من نفسها ومن درسها.

وها أنذا أقف حائرًا خائرًا أمام باب مغلق يغطيه الصمت ويعصره الضيق وتدوسه الهموم.

واقفٌ أنا على الباب ـ وفي لحظة صرت لا أدري من فينا الباب .. أهو أم أنا.

هل أنا باب أم بواب ... ؟!

وهل أنا أمام الباب أم خلف الباب ... ؟!

وإذا صحوت من شفقي وعتمتي فهل سأجد يدي بإزاء جسدي لكي أستعملها لطرق الباب ... ؟!

يا سبحان الله ... هل أستطيع حقًا أن اتخذ قرارًا شاذا مثل هذا القرار، وأطرق الباب .. ؟!

ماذا لو أن الأستاذ حسون قد تلاشى وابتلعته الجدران ... ؟!

أقول قولي هذا وأنا لا أعلم عما إذا كان الأستاذ حسون موجودًا فعلاً داخل هذه الغرفة أم لا.

في الأيام الخوالي كنا نستعين بالعم عباس فراش المدرسة لكي يبلغنا عن الناظر وهل هو موجود أم لا. أما وقد انتقل العم عباس إلى مدرسة أخرى بعد أن تبرم منه الأستاذ حسون وقال عنه إنه ثرثار مهذار ناقص العقل لأنه يتجرأ على الكلام في مدرسة جعلت الصمت شعارها. ولم يكن بالإمكان تعليم العم عباس نظرية الصمت لأنه أمي لا يحمل أي تأهيل علمي مما جعله لا يدرك النظرية السيميائية التي اخترعها السيد الناظر.

تذكرت العم عباس في هذه اللحظة وتمنيت أن لو كان حولي لأعرف منه إذا كان الأستاذ الناظر موجودًا.

لم أجرؤ على طرق الباب، وظللت واقفًا على ذلك الباب يحيط بي الضيق من كل مكان، ومن ورائي الصمت ومن أمامي باب مغلق، يقبع خلفه سؤال أخرسته النظرية وأسكته التدريب التربوي لمنظِّر وناظر اسمه حسون.

...

انتهت الحكاية العاشرة

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير