تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حكاية سحَّارة (11)

ـ[معاوية]ــــــــ[25 - 09 - 2006, 09:06 م]ـ

****************************************

قراءة من كتاب خرافي ..

****************************************

لعبد الله بن محمد الغذامي ....

11 - حكاية سحَّارة

ـ 1 ـ

ما أقسى أن تقف على باب أبكم أخرس، لا تدري ما وراءه ـ ومع ذلك فإنك تعلق عليه آمالاً عراضًا، وترجو منه فتحًا مبينًا يخلصك مما أنت فيه من ضيق وحيرة ـ.

كانت هذه حالتي أمام باب مكتب الأستاذ حسون، ناظر مدرستنا. هذه المدرسة التي صارت ـ الآن ـ حالة خاصّة، لا مثيل لها في ذكريات الناس والأحداث.

مدرسة كنت أظنها أحسن مدرسة في الوجود البشري. ويكفي أنها تقوم في أحضان شجرة السدر.

وهي شجرة سدر ضخمة تقف شامخة سامقة وسط فناء المدرسة. ولا أحد يعلم متى غُرست هذه الشجرة، ولا من غرسها. ولكنها شجرة ظلت تعطي هذا المكان معنى خاصًا وترمز للنماء والحياة والخيال، وتبعث السرور والبهجة لكل من يراها أو يجلس في ظلها. دائمة الخضرة، معطاء الثمرة ويروى أنها كانت في قديم الزمان تساعد الطلاب على حلّ واجباتهم، وكل طالب تستعصي عليه مسألة في الحساب أو الجبر ويرقد في ظلها بضع دقائق فإنه يصحو من رقدته وقد رأى الحل مرسومًا في خاطره وما عليه إلا أن يسطر الحل فورًا وقبل مغادرته لحدود ظلال الشجرة. ولو حدث أن غادر حدود الظل دون أن يكتب الحل فإنه لن يجد الحل أبدًا مهما حاول التذكر حتى ولو عصر مخه عصرًا. بل إن بعضهم يقول إن الطالب الذي يتهاون في كتابة الحل الممنوح له من الشجرة يفقد قدرته على الفهم والاستيعاب ويعجز عن مواصلة الدرس في تلك المادة. ولذلك فإن الطلاب يحرصون على احترام حقوق الشجرة وعلى مراعاة الأدب في التعامل معها.

ـ[معاوية]ــــــــ[27 - 09 - 2006, 11:21 ص]ـ

ـ 3 ـ

ولم تكن بركة الشجرة وخيراتها خاصة بطلاب المدرسة وحدهم. بل إن ذلك يشمل أهل البلدة كافة. وكنت في بداية عهدي مع المدرسة أشاهد رجالاً يأتون أوقات الضحى ويتروّشون في حوض الماء الواقع قبالة مبنى المدرسة من جهة الغرب. وهو حوض ماء أوقفه أصحاب المزرعة المجاورة لكي تشرب منه الدواب ويستقي منه أهل الحارات المجاورة، ويشرب منه الطلاب وعابرو السبيل. وكان الناس يأتون إلى داخل المدرسة بعد الاستحمام في ذلك الحوض لكي يجلسوا تحت شجرة السدر. وكنت ترى على وجوههم أثر البشاشة والفرح والاستغراق في السعادة وهم في ظل هذه الشجرة.

ـ[معاوية]ــــــــ[27 - 09 - 2006, 07:11 م]ـ

ـ 3 ـ

لقد كان بيني وبين هذه الشجرة إلفة خاصة مذ كنت طالبًا في هذه المدرسة، وقد نشأت هذه الإلفة منذ تلك اللحظة التي عاقبني فيها مدرّس الحساب لأنني لم أحفظ جدول الضرب فكلفني بسقاية الشجرة، وذلك بأن أنقل جرادل الماء من المزرعة المجاورة وأصبه في حوض الشجرة.

لقد كان ذلك عقابًا شرسًا على صبي يافع ضعيف البنية مثلي في ذلك الحين، وكان جسمي أضعف من أن يتحمل هذا العبء الثقيل ويحمل جرادل الماء الممتلئة والتي كان العم عباس يقوم بها أيام قوته واكتماله. ولكن لم يك بد من تحمل هذا العقاب إذ لن يسمع أحد شكواي فيما لو حاولت التشكي، إضافة إلى أن تربيتنا في ذلك الزمن تحرِّم علينا الاعتراض أو المناقشة أو المسائلة. وعلينا ـ دائمًا ـ أن ننصاع لكلام من هو أكبر منا ـ خاصة المدرِّسين وأولياء الأمور وكبار الجماعة والحمولةـ.

لذا فقد أسلمت أمري لله، وذهبت نحو حوض الماء وبيدي الجردل وفي قلبي الحسرة والانكسار والمرارة. وغطّست الجردل وسط الماء وكان جسمي بكامله معلقًا فوق وجه الماء، وحينما جذبت الجردل خرَّ جسمي ووقعت في الحوض حيث ابتلعني الماء إلى داخل الحوض، ولم ينقذني من غرق مؤكد سوى فتاة بدوية كانت تقف بجانب الحوض، وبادرت إلى جذبي، ولم يك ذلك بالعمل الصعب عليها إذ أن جسمي من الهوان إلى درجة وزن الريشة.

أخرجتني البدوية من الماء مبلل الثياب وقد غص حلقي بالماء والشبا، وغصت نفسي بالانكسار والفزع، وأحسست يومها بذلك الحس القاتل حينما تحس وكأن العالم كله تجمع لينظر إليك وأنت في حال من الهوان والضعة وانعدام القيمة والتقدير.

أخذتني البدوية إلى باب المدرسة وراحت تدق على الباب وتصفق بيديها لتجلب انتباه من في داخل المبنى، وكنت لحظتها أتمنى الموت ولا يشاهدني زملائي التلاميذ على تلك الحال. ولكن لا مفر لي منذ أن كانت تربيتنا الاجتماعية لا تسمح بأي خيار سوى الانصياع والاستسلام.

جاء المدرِّس ـ إياه ـ بعد أن نبهه الطلاب إلى نداءات البدوية، وأخذني من يدي وجرني بغلظة وأوقفني تحت شجرة السدر قبالة مدخل الفصل، وذلك من أجل تجفيف ملابسي. وعاد الأستاذ إلى الفصل ليواصل ساديته المعتادة مع باقي الطلاب.

أما أنا فقد ظللت واقفًا تحت الشجرة. وهذه هي لحظتي الحقيقية مع بركة هذه السدرة، إذ بمجرد أن وقفت في ظلها عمني شعور بالراحة والهدوء وارتفعت عن خاطري الهموم وزال الانكسار وغمرني حنان أراح نفسي وثبت قدمي الراجفتين، ووجدت عيني تسرحان بين ورقات السدر، وبدأت أسمع وأرى همسات تصدر من الورقات وتخاطبني أنا خاصة وتتكلم معي تخصيصًا. وهذه أول مرّة من طفولتي أكتشف أنني إنسان يستحق أن يخاطب بمفرده وأن يخص بحديث موجه إليه وحده.

إكتشفت أنني إنسان، وهذا هو ما فعلته (السدرة) معي ولي.

انتهت الحكاية الحادية عشر

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير