تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حكاية سحَّارة (12)

ـ[معاوية]ــــــــ[28 - 09 - 2006, 09:00 م]ـ

****************************************

قراءة من كتاب خرافي ..

****************************************

لعبد الله بن محمد الغذامي ....

12 - حكاية سحَّارة

ـ 1 ـ

قال المعلم مسعود بن عبد القيوم:

مرّت عليَّ ساعة ثقيلة طويلة، وأنا على باب الأستاذ حسون أندب حالي وحال المدرسة وأهلها حتى كدت أن أنزل على الباب أرفسه وأكسِّر حلقاته، هذا الباب المتجمد الساكن الذي لا حياة من حواليه. وكل الذي أريده من هذا الباب البليد هو أن أعرف عما إذا كان سعادة الناظر قابعًا داخل المكتب أم أنه في موقع آخر في المدرسة أو خارجها. ولم أجد في الباب ما يشعرني بشيء أو يقودني إلى شيء يفيدني لمعرفة مكان الأستاذ الناظر، الذي دأب على التخفي عنا وعدم الظهور علينا مهما كانت حاجتنا وحاجة المدرسة إليه.

ولكن بعد طول حيرة وتوجس لمحت حركة فاترة تصدر من الجانب المقابل للممر الرئيسي في جناح الإدارة. وهو ممر كان في أصله فسيحًا وبهيًّا ولكنه الآن أصبح حرجًا ضيقًا كحال سائر قاعات وممرات المدرسة بعدما جرى عليها مما ذكرته لكم ـ سابقًا ـ من ضيق وانحسار أصاب المبنى من داخله، وجعل المدرسة مثل الصدر المحشور حتى ضاقت بالهواء الذي صار يحدث صفيرًا وأزيزًا مخيفًا ومحزنًا وهو يتسرب عبر الممرات الضيقة والمنعطفات المتلاصقة. ويا لله على تلك الأيام التي كان فيها الفرح والسعة هما صفة المكان وسمة الحركة فيه.

لمحت حركة باهتة في الطرف المقابل من الممر فاتجهت نحوها فإذا بي أكتشف أن الأستاذ حسون يقبع داخل (المختبر الصوتي) منهمكًا في تجاربه على ما يظنه نظرية في استبدال اللغة البشرية وتحويلها من لغة منطوقة إلى لغة خرساء لا تعتمد على الكلام بل على اللمح والإيماء.

وجدت الباب مواربًا فدفعته ودخلت.

ـ[معاوية]ــــــــ[29 - 09 - 2006, 08:52 م]ـ

ـ 2 ـ

دخلت وأنا أكاد أنفجر من الغيض إذ رأيت السيد الناظر يجلس بهدوء وسكينة واستغراق عجيب، في حين أن المدرسة تمر بكارثة توشك أن تهد الكيان كله على ما فيه ومن فيه.

وتذكرت أن الأستاذ حسون قد حرَّم علينا استخدام اللغة المنطوقة وفرض علينا لغة الإيماء والإشارة، غير أني لم أكن في وضع يمكنني من التحكم بنفسي وبتصرفاتي، ولذا فقد انفجرت متكلمًا بانفعال وعاطفة تجيش بالصدق والمصارحة والمكاشفة، وتكلمت عن الخطر الذي يداهم مدرستنا وعن حالة (الضيق) التي أصابت المبنى مما هو علامة على أزمة نفسية حادة تعاني منها المدرسة وقد تؤدي بها إلى الانفجار والدمار.

كنت أتكلم بانجراف وانفعال، ولم ألاحظ ردود الفعل لدى الأستاذ حسون، ولكنني بعد قليل رأيته يشير إليَّ إشارات متوالية متتالية يطلب مني الصمت والهدوء. ثم وضع يده على فمي وشد على لساني بقوة إلى أن منعني فعليًّا من التفوه والحديث.

ثم طلب مني الجلوس، ويده ما تزال شادة على لساني. جلست وكان العرق يتصبب من فوق جبيني وعلى صدغي، ورمقني حسون بعينين غاضبتين وأشار بيده اليسرى إلى مقص أزرق معلق على الحائط. وفهمت من هذه الإشارة أنه يستأذنني بأن يقص لساني. فأومأت له بعدم موافقتي على مقترحه. وهنا ناولني ورقة مرسومًا عليها لسان ورقبة وبينهما سهم مكتوب عليه هذه الجملة: (ويل لهذا من هذا). ويل للرقبة من اللسان.

أحسست بصداع عنيف يلف رأسي حتى أغشى بصري وفجر آذاني. وأحسست بضيق خانق يطوي خاطري كله. وتماثل لي لساني وكأنه ثعبان سامٌّ يلتف حول جسدي (وروحي) ويهدد كياني كله. وتراءى لي حسون وكأنه المنقذ الذي بيده انتشالي من بؤرة الآثام ورجس اللغة.

وانفجرت بالبكاء وانهالت دموعي حارة وذليلة، فرفع الأستاذ حسون يده عن لساني، وظهر لساني ذابلاً باهتًا لا حراك فيه ولا حياة. وكأن لساني قد تبرأ مني أو كأني قد تبرأت منه.

ونظر إليَّ السيد الناظر بإشفاق وتودد وأشار عليَّ بأن أغسل وجهي ورأسي، ووقف بجانبي يصب علىَّ الماء مشيرًا باستمرار بأن أتجنب اللسان إذ إن مجرد ملامسة هذه العضلة تفسد علىَّ نظافتي وقد تدنس يدي دنسًا لا تسهل إزالته.

ـ[معاوية]ــــــــ[30 - 09 - 2006, 02:27 م]ـ

ـ 3 ـ

أشار الأستاذ حسون إلىَّ بإشارات فهمتها كلها فهمًا تامًا. فهو قد سلمني (المقص الأزرق) ووضع عن يميني صورة لسمكة تسبح في بحيرة صافية زرقاء تحت جسر. وأشار إلى (شجرة السدر) التي في فناء المدرسة.

إنه يقول لي إن لساني هو شجرة السدر وأني لكي أصل إلى بحيرتي التائهة لا بدّ أن أستأصل هذه الشجرة التي تحول بيني وبين بحيرتي. فإذا قطعت الشجرة سينقطع اللسان معها وسأكون حينها سمكة تسبح حرة في مائها الصافي وبحيرتها النقية.

وخرج الأستاذ حسون من المختبر الصوتي وتركني وحدي هناك. تركني في صمت تام وفي عزلة مطبقة، وبيدي مقص أزرق وأمامي شجرة السدر، وخلفي سمكة تسبح في بحيرة وبين فكَّيَّ لسان متخدر بليد.

وراح حسون ليدخل إلى غرفة الإدارة ويغلق الباب من خلفه، وهو على يقين من أنه قد قطع آخر لسان في المدرسة. وحقق نظريته الجديدة، حيث لم يعد بحاجة للعودة إلى المختبر.

انتهت الحكاية الثانية عشرة

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير