تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ذلك أن الثابت هو رواية البيت بكسر الغين وفتحها. وقد روته المعجمات على هذا النحو، فنص ابن المنظور في لسان العرب على أن من رواه بالكسر أراد مصدر غانيته أي فاخرته بالغنى (77)، ومن رواه بالفتح أراد الغنى نفسه. فالغنى والغَنا واحد في المعجمات العربية (78). كما أن أبا بكر الأنباري الذي روى البيت كان من أعلم الناس وأفضلهم في نحو الكوفيين، وأكبرهم حفظاً للغة. أخذ عن ثعلب. وكان ثقة صدوقاً. توفي عام 271ه‍. وقد حرص السيوطي على أن تتوافر هذه الصفات في اللغوي (79)، ولكنه ساق اتهام القالي على عواهنه من غير تعليل، على الرغم من أن انعام النظر يقوده بيسر إلى أن كلام أبي بكر سليم لاشية فيه. ومن ثم كان عليه أن يتخذ البيت حجة على أن (الغِنى والغَناء) بمعنى واحد، وأن يكون ذلك مناسبة للقول أن الشعر لا يُرفض إذا كان قائله مجهولاً وراويه ثقة.

أما البيت الثالث المنسوب إلى إبراهيم بن هرمة فليس شاهداً على إشباع الحركة، ولا يجوز بناء قاعدة نحوية استناداً إليه، لأن الشاعر قال: (فأنظور) اضطراراً ولم يقل ذلك اختياراً. وهذا البيت يعزز ما لاحظناه من أن السيوطي لا يميز بين الضرورة الشعرية وغيرها. والغريب أنه نقل في الاقتراح (80) عن منهاج البلغاء أن قول الشاعر (فأنظور) ضرورة مستقبحة.

وأما البيت الرابع الذي احتج به الكوفيون على جواز إظهار (أن) بعد (كيما) فقد خطّأه السيوطي لأن قائله مجهول، وهذه التخطئة مقبولة، لأننا نرغب في معرفة الشاعر للتأكد من صحة رواية البيت. ذلك أن هناك بيتاً آخر لجميل بن معمر احتج به الكوفيون على الأمر نفسه، وهذا البيت هو:

فقالت: أكلّ الناس أصبحت مانحاً * لسانك كيما أن تفرّ وتخدعا

ومعرفة اسم الشاعر جميل سمحت بالعودة إلى ديوانه (81) فإذا الرواية فيه: (لسانك هذا كي تغرّ وتخدعا). وهذه الرواية تجعل القاعدة الخاصة بإظهار (أن) بعد (كي) تنهار. ونخشى من أن يكون البيت الذي ذكره السيوطي على هذا النحو من خطأ الرواية، ولكننا لم نر السيوطي يلتفت إلى هذا الأمر، بل رأيناه يرفض البيت تبعاً لرفض ابن الأنبار له واستناداً إلى معياره وهو كون قائل البيت مجهولاً.

إن موقف السيوطي من الاحتجاج بالشعر العربي ينم على أنه لا يناقش الآراء التي ينقلها، ولا ينعم النظر في مواضع الغلط فيها، ولا يفيد من قواعد الاحتجاج التي كان قررها.

...

ههنا يمكنني الاطمئنان إلى أن موقف السيوطي من الأغلاط اللغوية لا يتسم بالأصالة، ولا ينبئ عن أن هذا الرجل لغوي ذو رأي واضح، ومعيار ثابت. بل هو لغوي انتقائي انطباعي، يعجبه الرأي فينسخ نصه كاملاً أو يلخصه. وقد يعجبه رأي آخر بعد حين فينسخه من غير أن ينعم النظر في مخالفته الرأي السابق ومناقضته له. ومن ثم نراه يخطئ شيئاً بعد تصويبه، أو يبدي حماسة للاحتجاج بقراءات القرآن الكريم كلها، ولكنه في أثناء التطبيق لا يتمكن من الإفادة من هذه القراءات في تصويب كلام العرب. كما يبدو حذراً من الاحتجاج بالحديث الشريف نظرياً، ولكنه يحتج به كثيراً في أثناء التطبيق.

وقد توافرت للسيوطي مؤلفات اللغويين والنحاة والقراء والمحدثين، ولكنه لم يفد منها في تقديم معيار للصواب يلخص به ما انتهى العلماء إليه بعد فراغهم من جمع اللغة وتقعيد القواعد وتدوين الحديث والقراءات القرآنية، بل إنه قصّر عن سابقيه، لأنهم عالجوا لحن العامة والخاصة استناداً إلى وجهات نظرهم وما توافر لهم من نصوص، في حين كرر السيوطي ما ذكروه من غير التفات إلى تطور اللغة العربية بين زمنهم وزمنه. كما فاته أن الرواية والدراية وغيرهما من الأعمال اللغوية انتهى زمنها، واستقرت أمورها في مؤلفات ومعجمات حلت محل مشافهة الأعراب والخلاف بين المدارس النحوية واللغوية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير