تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فقد غلا، ومن نزل بمقام الربوبية بوصف الرب، جل وعلا، بأوصاف العبودية من العجز والافتقار ........... إلخ، فقد جفا، ولا ينفك الغالي عن جفاء، والجافي عن غلو، فهما من المتلازمات العقلية، إذ الصلة بينهما وثيقة، فيطرد الجفاء في حق الرب، جل وعلا، باطراد الغلو في حق العبد.

وقد استعمل ابن تيمية، رحمه الله، في سياق إبطال مقالة النصارى في المسيح عليه السلام: طريقة نقض الدليل يقلبه على الخصم، إذ لو سلم له بصحة المقالة، فغير معظمه بها أولى، وليس ذلك انتقاصا من قدر المفضول، بل هو تنبيه على بطلان ما ادعي له على حد الغلو، بنفيه عن الفاضل، فانتفاؤه عمن هو دونه ثابت من باب أولى، فإذا انتفى الوصف عن موسى وهو أجل قدرا من المسيح، عليهما السلام، فانتفاؤه عن المسيح ثابت من باب أولى.

وذلك، أيضا، مما اطرد في رد ابن تيمية، رحمه الله، في: "منهاج السنة" في معرض نقض مقالة الغلاة في علي، رضي الله عنه، فهي من جنس مقالة النصارى في المسيح، عليه السلام، وتلك طريقة تصلح للرد على كل غال ادعى لمعظمه ما ليس له من الأوصاف، ولا يلزم من ذلك انتقاصه، بل انتقاصه، عند التحقيق، يكون بالكذب في وصفه بما ليس فيه، فيفسد الحكم عليه فرعا عن فساد تصور ماهيته، فإن من اعتقد في المسيح عليه السلام وصف الألوهية فقد تصور مسيحا لا وجود له في الخارج، ومن اعتقد في علي، رضي الله عنه، وصف الإمامة على حد العصمة، قد تصور عليا لا وجود له في الخارج، فهو محض افتراض عقلي في ذهن فاسد التصور.

ويقال من وجه آخر: إن النسخ، حتى على وزان الطريقة الشرعية، لا يكون إلا في باب الأحكام العملية، لا الأخبار العلمية، ولو كانت فرعية، لئلا يلزم من ذلك وقوع الكذب في الوحي المعصوم عن الكذب والخطأ، فكيف بمقالات تعارض أصل دين الرسل عليهم السلام، ثم يدعى أنها من دينهم، بل هي طريق النجاة لكل سالك، وغيرها بنيات لا يسير فيها إلا هالك!، وتلك دعوى أصحاب كل طريقة محدثة في الملل أو النحل، فإنه يدعون لطريقتهم من الكمال والعصمة ما ليس لغيرها، بلا مستند نقلي أو عقلي، فدعواهم هي عين دليلهم!، بخلاف طريقة الأنبياء عليهم السلام فإنها، كما تقدم، في أكثر من موضع، مؤيدة بالبرهان النقلي الصحيح، لا سيما الملة الخاتمة على وجه العموم، ونحلة أهل السنة المنتسبين إلى صدر الأمة على وجه الخصوص، فهم الذين حرروا أدلتهم في الإلهيات والحكميات تحريرا أعيى الورى أن يحاكوه، فضلا عن أن يسبقوه، وذلك مما اعترف به عقلاء الأمم ممن لهم حظ في العلم بطرائق البحث والاستدلال، وهي مع ذلك مؤيدة بالبرهان العقلي الصريح، فلا تجد فيها من التناقض والاضطراب ما يصادم أقيسة العقل الصريح على حد قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وزد على ذلك، وهو أعم الأدلة من جهة الإدراك، تأييد الفطرة السوية لها، فلا يتكلف لها من التأويلات العقلية البعيدة بل المحالة في كثير من الأحيان ما يتكلف لبقية المقالات، فهي سر الديانة أو النحلة أو الطريقة فلا يعلمها إلا خواص الطريقة!، فتلك الخصوصية لا توجد في دين الإسلام، فالجميع يستوي في أمر التوحيد: أصل الملة، فالخصوصية فيه على حد: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، فلأهل العلم امتياز في تحصيل مسائله، لا في حجبها عن الخلق، واحتكار الحقائق الشرعية على جهة الطغيان والتسلط على العقول والأبدان برسم النيابة عن الإله أو المعصوم!، وما بعثت الرسل، عليهم السلام، إلا لإزالة ذلك الطغيان الذي يمارس غالبا باسمهم، وتاريخ الكنيسة خير شاهد على ذلك، فقد احتكرت وسائل المعرفة حتى بغضت الدين إلى أتباعها، فكانت الثورة العلمانية المشئومة التي قضت على تعظيم الأديان في النفوس، فصار الدين والحقيقة: متناقضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإما حديث الخرافة في المقررات الكنسية، وإما الحقيقة الكونية في المقررات العلمية، فعلوم الكنيسة قد جنت عليها بمصادمتها لحقائق الكون، وذلك مئنة من بطلانها في نفس الأمر، إذ الشرع والكون في أديان الرسل عليهم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير