تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

السلام: قرينان متفقان لا يفترقان، إذ الأصل الذي صدرا منه واحد، فالذي خلق الكون وأجراه على تلك السنن الكونية المتقنة، هو الذي بعث الرسل بتلك السنن الشرعية المحكمة، فجنس الإتقان والإحكام فيهما واحد، جنس: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، فالتمانع في الربوبية الكونية مئنة من التمانع في الألوهية الشرعية. فالرب المكون هو الإله المشرع.

ومن نصوص هذا الباب الجليل:

قول الشاطبي رحمه الله:

"فلولا أن مَنَّ الله على الخلق ببعثة الأنبياء لم تستقم لهم حياة ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين وأما المصالح الأخرويه فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع أسبابها وهي العبادات مثلا فإن العقل لا يشعر بها على الجملة فضلا عن العلم بها على التفصيل.

ومن جهة تصور الدار الأخرى وكونها آتية فلا بد وأنها دار جزاء على الأعمال فإن الذي يدرك العقل من ذلك مجرد الإمكان أن يشعر بها"

"الاعتصام"، ص52.

فالعقول لا تستقل بإدراك ما وراء هذه الدار إلا على سبيل الإجمال، إذ ذلك من باب الأخبار التي لا تتلقى إلا من مشكاة الوحي، فالغيب النسبي أو المطلق لا يمكن إدراكه إلا بخبر صادق، فالمريض يقبل قول الطبيب، إن سلم له بدنه، ولا يسأله عن الحجة أو وجه المصلحة، وإن كان المرض في كثير من الأحيان باطنا لا يدركه بحسه الظاهر، وكانت إصابة الدواء له من الخفاء بمكان، فتلك من الأسباب الكونية الدقيقة التي يرى أثرها التراكمي ولا يدرك تأثيرها الآني، فإذا كان الأمر كذلك في غيب نسبي، فكيف بالغيب المطلق الذي لا سبيل إليه إلا بخبر الوحي الصادق، فعلم من ذلك افتقار الخلق إلى نبوة هادية تبين لهم مجمل ما ركز في فطرهم من وجوب دار جزاء تلي هذه الدار، فالأحوال الأخروية لا تدرك بأقيسة الفلاسفة، وإنما السبيل إليها أخبار الأنبياء عليهم السلام، فأصولهم في الإلهيات والحكميات محكمة لا يتطرق إليها ما يتطرق إلى أقيسة العقول من الاضطراب والنقصان فرعا عن اضطراب ونقصان العقل التي صدرت منه صدور الراي المحتمل، لا صدور الوحي الجازم، ومن ذا الذي قال في الإلهيات الغيبية بعقله قولا يعتد به كما أثر ذلك عن ابن رشد الحفيد رحمه الله.

ويحكي الشاطبي، رحمه الله، طرفا من حال المبتدع في الديانة فيقول:

"إن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها وصار هو المنفرد بذلك لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع ولم يبق الخلاف بين الناس ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام.

فهذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا حيث شرع مع الشارع وفتح للاختلاف بابا ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك"

"الاعتصام"، ص55، 56.

وذلك ما التزمه البراهمة منكرو النبوات، بل غلوا في ذلك حتى قالوا بامتناع إرسال الرسل عليهم السلام إذ ذلك عندهم من المحال الذاتي على الله، عز وجل، لعدم الحاجة إليهم، فالعقل مستقل بمعرفة الحقائق الإلهية وسن الشرائع الحكمية على وجه البيان المفصل الذي لا يفتقر إلى بيان الرسل عليهم السلام فيكون إرسالهم عبثا لعدم الحاجة إليهم والعبث مما ينزه عنه الله عز وجل!.

ولسان حال المعتزلة، وكل من غلا في العقل وجفا في الشرع من بعدهم: لسان مقال البراهمة، وإن لم يغلوا غلو أولئك الذين أنكروا جنس النبوات جملة وتفصيلا، فأرباب المقالات العقلية، والعلمانيون، أبرز مثال لهم في عصرنا الحاضر، فآمنوا بجنس النبوات على جهة الإجمال، وإن كان فيهم من بلغت به الزندقة إلى إنكار جنس النبوات ابتداء، ولهم في مصر الآن نماذج تجاهر بمقالتها الإلحادية جهارا نهارا في ظل غياب سيف الشرع الحاسم لتلك الأدواء، فآمنوا بجنس التبوات إجمالا ثم توقفوا في قبول أخبارها وأحكامها التفصيلية، فلا بد من عرضها على قياس عقولهم الفاسد، فما وافقه قبلوه، وما خالفه ردوه، فصيروا العقل حاكما متبوعا، والشرع محكوما تابعا، وذلك نقض للحقائق العقلية قبل أن يكون نقضا للحقائق الشرعية، فإن الشرع قد قامت أدلة النقل

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير