تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالعقل مناط التكليف امتثالا لا مناط نقض التكليف توليا وإدبارا. فنور الوحي يزكيه وقياس الفلاسفة يطغيه، وإنما اضطر الفلاسفة إلى ذلك المسلك فرعا عن افتقارهم إلى جنس النبوات، فلم تكن فيهم نبوة تعصم عقولهم من الخوض في الإلهيات بأقيسة التجريبيات، بخلاف أتباع الرسل، فإنهم قد كفوا مؤنة ذلك، فلا حاجة لهم إلى وحي آخر بعد وحي النبوة، وتلك هي الإشكالية البارزة في طرائق العلمانيين في العصر الحاضر، إذ قد كفي أتباع الملة الخاتمة مؤنة الأخبار والأحكام والسياسات والأخلاق، في حين افتقرت أوروربا التي ظلت في القيد الكنسي قرونا، افتقرت إلى منهج بديل، فظنت النجاة في إنكار جنس الدين الذي لم تعرفه إلا طاغوتا متسلطا يرهب أتباعه بسيف الخلاص والنجاة، فلا سبيل إليهما إلا بالارتماء تحت أقدام القساوسة والرهبان، وتلك علة أصابت أمة الإسلام إصابة جزئية خاصة، لا كلية عامة كما وقع لأوروبا، فلو صح أن العلمانية علاج ناجع، فإنه يصلح لمجتمعات أوروبا التي لم تعرف النبوة الصحيحة يوما من الدهر، لا مجتمعات الشرق المسلم التي نعمت بجنس النبوات، فكل نعمة دينية أو دنيوة حصلتها إنما كانت فرعا عن تلك النعمة العظمى، وكل نقمة أصابتها إنما هي فرع عن تنكب طريقها ومعارضتها بجنس المعقول الأرضي: فلسفيا كان أو كلاميا أو علمانيا ........... إلخ فجنس المعارضة واحد، وإن غلا العلمانيون المعاصرون فعارضوا الوحي: أخبارا وأحكاما، بخلاف المتكلمين الذين قصروا بحثهم على الإلهيات فلم يعارضوا الشرائع بمعقولاتهم، ولم يدع أحدهم صراحة: نقصانه أو عدم كفايته لما يجد من الحوادث، وإن وقع جنس ذلك من أهل الرأي ممن غلا في القياس، فإنه لم يكن خارج نطاق الشرع إجمالا، فكانوا معظمين للشرع ظاهرا وباطنا، بخلاف العلمانيين المعاصرين الذين نصبوا العداء ظاهرا وباطنا للدين جملة وتفصيلا فليس له مكان إلا في دور العبادة على حد العقائد الوجدانية والشعائر البدنية، وكثير منهم ينكرها في قرارة نفسه، ولكنه لا يجرؤ على التصريح بذلك إلا حيث ضعف سلطان الشرع فلسان مقالهم الصريح: دع لله ما لله وما لقيصر لقيصر، وقد استحوذ قيصر على نصيب الأسد إذ له الحكم في شئون الملك والسياسة والحرب والاقتصاد والاجتماع .............. إلخ.

والشاهد أن: العقل وسيلة إدراك تفتقر إلى معطيات، والمعطيات في الشرعيات، كما تقدم، مرارا، لا تكون إلا من خبر النبوات.

ومن نصوص هذا الباب أيضا:

قول ابن القيم رحمه الله:

"والمقصودُ أن بحسب متابعة الرسول تكونُ العزَّة والكفاية والنُّصرة، كما أن بحسب متابعته تكونُ الهدايةُ والفلاح والنجاة، فاللّه سبحانه علَّق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شَقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاحُ والعزَّة، والكفاية والنصرة، والوِلاية والتأييد، وطيبُ العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذِّلةُ والصَّغار، والخوفُ والضلال، والخِذلان والشقاءُ في الدنيا والآخرة. وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأنه: "لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يَكُونَ هو أَحَبَّ إِلَيْهِ مِن وَلَده وَوَالِدِه وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" وأقسم اللّه سبحانه بأنه لا يؤمنُ مَن لا يُحكِّمه في كل ما تنازع فيه هو وغيرُه، ثم يَرضى بحُكمه، ولا يَجِدُ في نفسه حرجاً ممّا حكم به ثم يُسلم له تسليماً، وينقاد له انقياداً وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً} [الأحزاب: 36]. فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره صلى الله عليه وسلم، بل إذا أمر، فأمرُه حتم، وإنما الخِيَرَةُ في قول غيره إذا خفي أمرُه، وكان ذلك الغيرُ مِن أهل العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكونُ قولُ غيره سائغَ الاتباع، لا واجب الاتباع، فلا يجب على أحد اتباعُ قول أحد سواه، بل غايتُه أنَّه يسوغ له اتباعُه، ولو تَرَكَ الأخذ بقول غيره، لم يكن عاصياً للّه ورسوله. فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعُه، ويحرم عليهم مخالفتُه، ويجب عليهم تركُ كل قول

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير