لقوله؟ فلا حكم لأحد معه، ولا قولَ لأحد معه، كما لا تشريع لأحد معه، وكلُّ من سواه، فإنما يجب اتباعُه على قوله إذا أمر بما أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغاً محضاً ومخبراً لا منشئاً ومؤسساً، فمن أنشأ أقوالاً، وأسس قواعدَ بحسب فهمه وتأويله، لم يجب على الأمّةِ اتباعُها، ولا التحاكم إليها حتى تُعرَض على ما جاء به الرسولُ، فإن طابقته، ووافقته، وشهد لها بالصحة، قُبِلَتْ حينئذٍ، وإن خالفته، وجب ردُّها واطِّراحُها، فإن لم يتبين فيها أحدُ الأمرين، جُعِلَتْ موقوفة، وكان أحسنُ أحوالها أن يجوزَ الحكمُ والإِفتاء بها وتركه، وأما أنه يجب ويتعين، فكلا". اهـ
والتاريخ، كما تقدم، شاهد عدل على ذلك، فحيث كان أتباع الرسالات بها مستمسكين، فثم نصر وتمكين، وحيث كانوا فيها مفرطين، فثم خذلان وانكسار، وواقعنا المعاصر خير شاهد على ذلك.
والاحتكام إلى النبوات: رجوع إلى الأصل المطرد الذي يعرض عليه ما سواه، على جهة الاحتكام الإلزامي فلا خيرة فيه، فهو المسبار لكل قول في أصول وفروع الديانة، فكلياته الجامعة تعم أجناس الحوادث الكائنة دون أعيانها، وذلك من إعجاز الوحي البياني، إذ المبنى وجيز والمعنى وسيع.
ويقول ابن تيمية، رحمه الله، في "الصارم المسلول":
"فلولا الرسل ما عبد الله وحده لا شريك له وما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى ولا كانت له شريعة في الأرض.
ولا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجهه اليقين فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل واستصغى بذلك واستأنس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر وقد اعترف عامة الرءوس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية وإنما ينال به الظن والحسبان.
والقدر الذي يمكن العقل إداركه بنظره فإن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم نبهوا الناس عليه وذكروهم به ودعوهم إلى النظر فيه حتى فتحوا أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
والقدر الذي يعجز العقل عن إدراكه علموهم إياه وأنبأوهم به فالطعن فيهم طعن في توحيد الله وأسمائه وصفاته وكلامه ودينه وشرائعه وأنبيائه وثوابه وعقابه وعامة الأسباب التي بينه وبين خلقه بل يقال: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا في نبوة أو أثر نبوة وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات ولا يستريبن العاقل في هذا الباب الذين درست النبوة فيهم مثل البراهمة والصابئة والمجوس ونحوهم فإن فلاسفتهم وعامتهم قد أعرضوا عن الله وتوحيده وأقبلوا على عبادة الكواكب والنيران والأصنام وغير ذلك من الأوثان والطواغيت فلم يبق بأيديهم لا توحيد ولا غيره.
وليست أمة مستمسكة بالتوحيد إلا أتباع الرسل قال الله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} فأخبر أن دينه الذي يدعوا إليه المرسلون كبر على المشركين فما الناس إلا تابع لهم أو مشرك". اهـ
فقد جاء الرسل بما يزكي العقل بتقرير وتثبيت ما أودع فيه من قوى الإدراك فلم يهملها، وزاد عليها: أخبار الغيب التي لا يستقل العقل بإدراكها، فكان مؤكدا لما استقر من المدركات مؤسسا لما نزل به الوحي من المغيبات.
ويقول قوام السنة، رحمه الله، في معرض حجاج المتكلمين الذين استعاروا أقيسة فلاسفة اليونان في باب الإلهيات فقدومها على الأخبار الصحيحات:
¥