تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"فإن قال هؤلاء القوم، فإنكم قد أنكرتم الكلام، ومنعتم استعمال أدلة العقول، فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم، ومن أي طريقة تتوصلون إلى معرفة حقائقها، وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول، وأنتم قد نفيتموها. قلنا: إنا لا ننكر أدلة العقول، والتوصل بها إلى المعارف، ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم، وإثبات الصانع، ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا، وأصح برهانا، وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة، لأنهم لا يستثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء.

فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله، عز وجل، عن ذلك، وكفاهم المؤنة في ركوب هذه الطريقة المعوجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والإبداع والانقطاع على سالكها". اهـ

"الحجة في بيان المحجة"، (1/ 406)

فزكاة العقل في موافقة النقل، إذ يزيده الوحي زكاء، فيجتمع له الذكاء والزكاء، وليس ذلك إلا لأتباع الرسل عليهم السلام.

وكل من وجد في نفسه افتقارا في باب الديانة إلى غير طريقة صاحب الرسالة، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنما ذلك لقصور في قوته العلمية وفساد في قوته العملية، فلو تضلع من علوم النبوات وأعمالها لزكت قواه الباطنة من العقل والقلب، ولزكت قواه الظاهرة من الجوارح الفاعلة، فإنه متحرك حساس، يفتقر إلى إرادة أولى تبعث قواه العملية، فإن جاءت تلك الإرادة على وزان: إرادة الشرع، جاءت أعماله صالحة زكية، وإن جاءت على غير وزانها: جاءت أعماله فاسدة ردية، فإن الفرع العملي يتبع الأصل العلمي صحة وفسادا.

والنبوة بالاستقراء الصحيح: أعظم نعمة ربانية على الإنسانية، إذ بها تحصل النجاة في الدارين، فالحمد لله الذي بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره الكافرون.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"ومن استقرأ أحوال العالم تبين له أن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إنعامه بإرساله صلى الله عليه وسلم وإن الذين ردوا رسالته هم من قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}. بالشكر من قبل هذه النعمة فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.

وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ". اهـ

"الجواب الصحيح"، (3/ 54).

ومن صور الافتقار إلى النبوات:

الافتقار إليها في بيان مشروعية الأعمال: إيجابا أو ندبا، ومقاديرها التوقيفية فذلك مما لا يعلم من غير طريق النبوات.

يقول الغزالي، رحمه الله، في معرض بيان اختصاص الأنبياء بسن مقادير الأعمال على حد التوقيف المؤيد بالوحي المعصوم:

"فكذلك بان لي على الضرورة أن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص لا ببضاعة العقل وكما أن الأدوية تركب من أخلاط مختلفة النوع والمقدار وبعضها ضعف لبعض في الوزن فلا يخلو اختلاف مقاديرها عن سر من قبل الخواص فكذلك العبادات التي هي أدوية القلوب مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار حتى أن السجود ضعف الركوع وصلاة الصبح نصف صلاة الظهر ولا يخلو عن سر من الأسرار هو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليها إلا بنور النبوة. (وليس ذلك إلا للأنبياء عليهم السلام فلا يكتسب هذا النور بل هو اصطفاء محض مع أن الأنبياء قد لا يعلمون حكمة بعض التشريعات ليحصل لهم أيضا ما يحصل لبقية المكلفين من الابتلاء بالإيمان بما لم تظهر حكمته).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير