قال أبي: وكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضال مبتدع
فيقول: كلموه ناظروه فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا يقول المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به.
وهكذا استمرت المناظرات في حضرت المأمون ليلتين والإمام أحمد صامد صمود الجبال الراسية
ويغلب رؤوس البدعة ويطيح بحججهم ولكن يأبى الشيطان إلا أن يلبس عليهم
يقول صالح: قال أبي، فلما كانت الليلة الثالثة قلت: خليق أن يحدث غدا من أمري شيء، فقلت للموكل بي: أريد خيطا فجاءني بخيط فشددت به الأقياد ورددت التكة إلى سراويلي، مخافة أن يحدث من أمري شيء فأتعرى
فلما كان من الغد أدخلت إلى الدار فإذا هي غاصة، فجعلت أدخل من موضع إلى موضع وقوم معهم السيوف وقوم معم السياط وغير ذلك، ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحد من هؤلاء. فلما انتهيت إليه قال: اقعد ثم قال: ناظروه كلموه.
فجعلوا يناظروني .. يتكلم هذا فأرد عليه ويتكلم هذا فأرد عليه، وجعل صوتي يعلو أصواتهم فجعل بعض من هو قائم على رأسي يومئ إلي بيده، فلما طال المجلس نحاني ثم خلا بهم، ثم نحاهم وردني إلى عنده، وقال: ويحك يا أحمد أجبني حتى أطلق عنك بيدي، فرددت عليه نحو ردي.
فقال: عليك، وذكر اللعن، خذوه .. اسحبوه .. فسحبت.
قال أحمد: في اليوم الذي خرجت فيه للسياط ومدت يداي للعقابين إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول: تعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا أبو الهيثم العيار، اللصُّ الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين إني ضربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصبر فأنت في طاعةالرحمن لأجل الدين.
فكان الإمام أحمد دائما يقول: رحم الله أبا الهيثم، غفر الله لأبي الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم،
قال صالح: قال أبي: لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم وقال: ائتوني بغيرها، ثم قال: للجلادين تقدموا فجعل يتقدم إلي الرجل منهم فيضربني سوطين، فيقول: شد قطع الله يدك، ثم يتنحى ويقوم الآخر فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شد قطع الله يدك، فلما ضربت تسعة عشر سوطا قام إلي – يعني المعتصم – وقال: يا أحمدعلام تقتل نفسك؟؟ إني والله عليك لشفيق
قال: فجعل عجيف - أحد قادة الأتراك العسكريين في جيش المعتصم- ينخسني بقائمة سيفه وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟
وجعل بعضهم يقول: ويلك الخليفة على رأسك قائم
وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي اقتله
وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين أنت صائم وأنت في الشمس قائم
فقال: ويحك يا أحمد ما تقول؟
فأقول: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول به فرجع وجلس، وقال للجلاد: تقدم وأوجع .. قطع الله يدك
ثم قام الثانية فجعل يقول: ويحك يا أحمد أجبني، فجعلوا يقبلون علي ويقولون: يا أحمد إمامك على رأسك قائم، وجعل عبد الرحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟
وجعل المعتصم يقول: ويحك أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله .. فيرجع ويقول للجلادين تقدموا فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك
قال أبي: فذهب عقلي فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أطلقت عني، فقال لي رجل ممن حضر: إنا كببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك
قال أبي: فماشعرت بذلك وأتوني بسويق فقالوا لي: اشرب وتقيأ، فقلت: لا أفطر
ثم جيء بي إلى دارإسحاق بن إبراهيم فحضرت صلاة الظهر فتقدم ابن سماعة فصلى، فلما انفتل من صلاته قال لي: صليت والدم يسيل في ثوبك؟
فقلت: قد صلى عمر وجرحه يثعب دما
قال صالح: ثم خلي عنه فصار إلى منزله
وخرج الإمام أحمد وعاد إلى بيته بعد 28 شهرًا من الحبس والضرب من سنة 218هـ حتى سنة 221هـ.
لنا أن نتخيل هذا الصبر العجيب وقوة التحمل على الأذى والتعذيب
ومع هذا وذاك فإن الإمام أحمد لما وصله خبر فتح عمورية على يد المعتصم
دعا له بخير وقال: هو في حل عما جنت يداه في تعذيبي إلا المبتدعين
ما أعظمك قدوة يا إمام!! وما أروعك تقوى وخشية من الله وورعا!!
وما أوسع قلبك وما أرحمه!!
رحمك الله ورحم المعتصم وغفر لكما
انتهى (2)
ـ[رحمة]ــــــــ[02 - 02 - 2010, 05:01 م]ـ
جزاكم الله خيراً أستاذي الكريم
موضوع رائع نتابع بإذن الله
بارك الله في وقتكم و جعله الله في ميزان حسناتكم
ـ[محمد الجبلي]ــــــــ[02 - 02 - 2010, 05:09 م]ـ
أسلوبك ممتع (أو ماتع) جدا ما شاء الله
ـ[بل الصدى]ــــــــ[02 - 02 - 2010, 08:46 م]ـ
اللهم هب لنا من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا.
اللهم ارزقنا الصبر عند القضاء.
جزيت خيرا أخانا الكريم.
¥