تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فتحصل من ذلك أن الرب، جل وعلا، قد سلط إبليس، بقدره الكوني النافذ، على ضعاف العقول من بني آدم، فتسلطه عليهم يتفاوت تبعا لضعف عقولهم، ولا يسلم من مصايده أحد مهما بلغ كمال عقله، إلا الأنبياء عليهم السلام، كما تقدم، فتسلط عليهم بهاتف الشر من الشبهات التي تستدفع بالاستعاذة، فيسلم جانب القلب العلمي الذي تتولد فيه التصورات، وتسلطت عليهم نفوسهم بنازع الشر الذي يقوي الشهوات، فإذا استغفروا سلم جانب القلب العملي الذي تتولد فيه الإرادات، فالشبهة: وسواس شيطان يختص بالعلم ويستدفع بالاستعاذة، والشهوة: وسواس نفس يختص بالعمل ويستدفع بالاستغفار العام سدا للذريعة، أو الاستغفار الخاص إن وقع الإنسان في المحظور، والخاطر قد يتركب من: الهاتف الخارجي والنازع الداخلي، فتكون فيه مادة الشبهة العلمية ومادة الشهوة العملية، وذلك يظهر بوضوح في مسالك علماء السوء ممن وقفوا بأبواب سلاطين الجور من المتملكة والمتأمرة بحد السيف، وما أكثر الصنفين في زماننا، فهو شاهد عيان على اجتماع المادتين في محل واحد، فقد اجتمع لأولئك المخذولين: الشهوة العملية فابتغوا بعلمهم مطاعم زائلة ورياسات زائفة، وألقى إليهم الشيطان شبهات يتأولون بها لسلاطين الجور أفعالهم، فالفتاوى في خدمة سياسات الجور، ولكل فعل تخريج ولو مرجوح على نص شرعي أو قاعدة فقهية وخرق المطرد من كلام أهل العلم بالبحث والتنقير عن الأقوال المهجورة والزلات المغفورة للأئمة الأعلام، والإفتاء بها على أنها الأقوال الراجحة المنصورة، ذلك الخرق، سمة بارزة في مسالك أولئك المخذولين، فعندهم من القوة العلمية ما يمكنهم من تلفيق الفتاوى، لا سيما في ظل الجهل بالشرع، كما هو الحال في زماننا، فقد أوتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء، فقواهم العلمية بلا قوى عملية إرادية تصححها، فشبهة صادفت شهوة في محل فاسد فكان ما كان من الفساد اللازم في المحل والمتعدي إلى الغير، وإلى طرف من مسلك أولئك أشار ابن القيم، رحمه الله، في "الفوائد" بقوله:

"كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها , فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه , في خبره وإلزامه , لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس , ولا سيما أهل الرئاسة. والذين يتبعون الشهوات فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا , فإذا كان العالم والحاكم محبين للرئاسة , متبعين للشهوات , لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما بضاده من الحق , ولا سيما إذا قامت له شبهة , فتتفق الشبهة والشهوة , ويثور الهوى , فيخفى الصواب , وينطمس وجه الحق. وإن كان الحق ظاهرا لا خفاء به ولا شبهة فيه , أقدم على مخالفته وقال: لي مخرج من التوبة. وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَات} مريم 59. وقال تعالى فيهم أيضا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} الأعراف 169. فأخبر سبحانه أنهم أخذوا الغرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا سيغفر لنا , وان عرض لهم عرض آخر أخذوه فهم مصرون على ذلك , وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق , فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك , أو لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه: فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون , وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه , وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا , فلا يحملهم حب الرئاسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة. وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة , ويستعينوا بالصبر والصلاة , ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها , والآخرة وإقبالها ودوامها , وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل فيجتمع لهم الأمران , فإن اتّباع الهوى يعمى عين القلب , فلا يميز بين السنة والبدعة , أو

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير