فيندفع بغريزة الخوف من الوحدة والعزلة الاجتماعية إلى دعوة غيره إلى ما يؤمن به ويعتقده ليجد فيمن يتبعه وينتمي إليه أنساً وأماناً اجتماعياً.
وهناك عامل نفسي آخر يدفع الإنسان إلى الدعوة وهو عامل الحب الذي يولد الخوف على المحبوب.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى هذا العامل النفسي في الدعوة. في قوله تعالى في قصة نوح (ع): (وهي تجري بهم في موج كالجبال. ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن من الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء واستوت على الجودي وقيل بُعداً للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي، وإن وعدك الحق وأنت أحم الحاكمين) (11).
هذه الآيات من قصة نوح (ع) تبين الدافع في دعوة نوح لابنه فإن حبه لابنه الذي هو من أهله وبضعة منه دفعه إلى دعوته بأسلوب يشوبه الخوف عليه من غضب الله في الدنيا بالغرق والآخرة بالنار.
والخوف المتولد من الحب يظهر بجلاء في الألفاظ والأسلوب (يا بني اركب معنا) ونداءه بالبنوّة لتذكيره بالعلاقة الروحية بينهما. وقوله (رب إن ابن من أهلي) أسلوب رجاء واستعطاف يؤكد دافع الحب للخوف على ابنه.
وفي سورة الأحقاف مورد آخر لا يقل في ظهور دافع الحب في الدعوة عن هذا المورد.
(والذي قال لوالديه أُفٍ لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن، إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين) (12).
فإن استغاثة الوالدين بالله ليعينهما في دعوة ابنهما العاق إلى الإيمان وقولهم (ويلك آمن) أسلوب تغمره المشاعر بالحب لولدهما والخوف عليه من الهلكة وغضب الله.
والدعوة إلى الإسلام لا تختلف عن هذه الفطرة والمشاعر فهي تنطلق من منطلقة ومبنية على نفس القاعدة، إلا أنها تزيد عليه في سمو الهدف وطهارة الوسيلة، فالإسلام هدفه السمو الروحي للإنسان والرقي الفكري للفرد والمجتمع، والدعوة إلى الإسلام تعني الدعوة إلى تلك المثل والمعاني السامية.
والفطرة وغريزة الفرد المسلم تدعوه للدعوة إلى ما يعتقد به، علاوة على ذلك العقيدة التي رسخها في النفوس أتباعه بقول النبي (ص): «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
فالعقل والنفس الروح توجب على المسلمين دعوة غيرهم إلى الإسلام ودعوة بعضهم إلى التمسك به والالتزام بتعاليمه بدافع الحب للآخرين والخوف من الضعف والعزلة ورجاءً في الثواب من الله سبحانه وتعالى ورغبة في إسعاد البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
الأدلة النقلية على وجوب الدعوة
أدلة وجوب الدعوة إلى الإسلام والحث عليها وردت في أكثر من موضع في كتاب الله الكريم أذكر منها على سبيل ذكر الأصرح والأوضح دلالة.
1 - قوله تعالى: (إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن» (13).
2 - وقوله تعالى: (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكن من المشركين) - (14).
3 - وقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (15).
وجه الاستدلال في الآيتين الأولى والثانية. هو أن حكم وجوب الدعوة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس ضمن الأحكام الخاصة به صلوات الله عليه وآله كوجوب قيام الليل عليه بقوله: (ثم الليل إلا قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا).
بل يتعدى الوجوب في الآيتين إلى المؤمنين الذين اتبعوه وآمنوا برسالة الإسلام. ويدل على تعد الوجوب قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) (16).
وكذلك قوله تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين).
فإن أسلوب الحث والتحريض على الدعوة إلى الإسلام، وتفضيل الانشغال بالدعوة عن غير ذلك من انشغالات يدل دلالة صريحة على تعدي وجوب العمل بالدعوة إلى الإسلام العزيز.
وأما الآية الثالثة فدلالة وجوب الدعوة الإسلامية فيها صريحة وقاطعة: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) فدخول لام الأمر على الفعل المضارع المجزوم بها (ولتكن) يقوّي معنى الأمرية في الجملة.
¥