عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا، وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته أقف عند كل آية وأسأله عنها، وقال الشعبي: ما ابتدع أحد بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها وقال مسروق: ما سئل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه، وهذا باب واسع قد بسط في موضعه) 15.
وقال أيضاً: (معرفة مراد الرسول ومراد الصحابة هو أصل العلم وينبوع الهدى ; وإلا فكثير ممن يذكر مذهب السلف ويحكيه لا يكون له خبرة بشيء من هذا الباب كما يظنون أن مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها. أنه لا يفهم أحد معانيها ; لا الرسول ولا غيره ويظنون أن هذا معنى قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} مع نصرهم للوقف على ذلك ; فيجعلون مضمون مذهب السلف أن الرسول بلغ قرآنا لا يفهم معناه ; بل تكلم بأحاديث الصفات وهو لا يفهم معناها وأن جبريل كذلك ; وأن الصحابة والتابعين كذلك. وهذا ضلال عظيم وهو أحد أنواع الضلال في كلام الله والرسول صلى الله عليه وسلم) 16.
وقد ظنّ كثير من النّاس أنّ مذهب التّفويض هو مذهب السّلف، ذلك بسبب انتشار أصحاب المذاهب الفاسدة، وكذلك ما نُقل عن السّلف من كلمات توهّمها هؤلاء مؤيّدة لما هم عليه، مع أنّهم لو جمعوا نصوص السّلف لتبيّن لهم مرادهم منها، ولم يقل قائلهم: وكلّ نص أوهم التّشبيها أوّله أو فوّض ورم تنزيها.
التّأويل (التّحريف).
أوّل تحريف وقع فيه أهل التّأويل هو تحريف هذه الكلمة عن معناها الأصلي.
ومع أنّه لا مشاحّة في الاصطلاح، إلاّ أنّ أهل البدع من عملهم أنّهم يصطلحون على ألفاظ ثمّ يفسّرون ألفاظ الكتاب والسّنّة بها وهذا تحريف.
ومنه لفظ التّأويل، فإنّهم اصطلحوا على تسمية صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى مرجوح تأويلاً، ثمّ أطلقوا عقولهم في النّصوص تحريفاً، فإذا ما أنكر عليهم منكر قالوا هذا تأويل وقد قال الله تعالى: {وما يعلم تأويله إلاّ الله والرّاسخون في العلم}.
وعلى العموم فإنّ لفظ التّأويل وقع في كلام السّلف، وقد استعملوه بمعناه اللغوي الّذي ينتظم أمرين:
أوّلها: تفسير الكلام، ومنه قول الطّبري وغيره: (القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا).
ثانيها: حقيقة الكلام ومآله الّذي ينتهي إليه، فإن كان الكلام خبراً فتأويله وقوعه، ومنه قوله تعالى: {هل ينظرون إلاّ تأويله} وقول يوسف لأبيه: {هذا تأويل رؤياي}، ومنه قول الله تعالى: {{وما يعلم تأويله إلاّ الله والرّاسخون في العلم}، وإن كان أمراً فتأويله امتثاله كقول عائشة في ذكره e في الرّكوع والسجود: (يتأوّل القرآن).
وقد اصطلح المتأخّرون على تسمية (صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى المرجوح لقرينة تدلّ عليه) تأويلاً، لكنّهم اشترطوا لصحّة هذا التأويل شروطاً منها:
. أن يكون المعنى المصروف إليه اللفظ ممّا يحتمله اللفظ لغة ولو من بعيد.
. أن توجد قرينة تسوّغ صرف اللفظ عن ظاهره أو قل تمنع حمل النّص على ظاهره.
. أن يكون هذا الاستعمال ممّا يسوغ لغة.
لكنّ أهل البدع لم يلتزموا هذه الشّروط، فصرفوا معاني نصوص الأسماء والصفات عن ظاهرها بدون قرينة توجب ذلك، فقالوا: تأويل الاستواء: الاستيلاء، واليد القدرة والغضب إرادة العقوبة والانتقام والرحمة إرادة الإنعام وهكذا وقعوا في مفاسد متعدّدة:
. فهم أوّلاً حرّفوا النّص عن دلالته.
. ثمّ عطّلوه عما دلّ عليه.
. وأنكروا صفة الرّحمن الّتي جاء بها النّص.
. ثمّ وصفوه تعالى بالنّقص إذ نفو عنه الكمال الّذي أثبته لنفسه.
كلّ هذا سوّغوه لأنفسهم استدلالاً بطاغوت التّأويل الّذي استخدموه للتّملّص من الأدلّة الّتي تنقض مذاهبهم.
وسبب هذا الخلط الّذي وقع فيه المبتدعة بشتّى أصنافهم وعلى راسهم المأوّلة أنّهم اعتقدوا أوّلاً ثمّ بحثوا لما اعتقدوه من أدلّة وردّوا ما عارضه.
وأمّا السّلف فإنّهم استدلّوا ثمّ اعتقدوا، فالاعتقاد تابع للنّص لا العكس.
والشّبهة الّتي اعتمدها أهل التّأويل قرينة لصرف النّصوص عن ظاهرها شبهة عقليّة، فقالوا: إنّه ثبت أنّ الله تعالى ليس كمثله شيء، وإثبات ظاهر النّصوص يستلزم التّشبيه فوجب التّأويل.
¥