الحمد لله الذي بعث فينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، الحمد لله الذي أنزل الكتاب تفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، {ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [يوسف 111].
لقد كثرت الفرق وتطاحنت فيما بينها حتى أصاب أمتنا ما أصابها من الوهن، ولم يكن ذلك إلا بتركهم لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وامتطائهم مركب البغي والجهل، حتى إن فضلاء القوم من أمثال الدكتور البوطي والدكتور محمد عمارة وغيرهم ممن لهم مساع كبيرة في الدفاع عن الإسلام والمسلمين والوقوف في وجوه أعدائهم من المستشرقين والعلمانيين ودعاة الانحلال؛ يحتقرون ويعيبون أقرب الناس إلى الحق من أهل السنة والحديث، فيطعنون في طريقهم ويسمونهم بالجهل والتقليد أو الجمود والتحجر على النصوص أو حشو القول، وهم في ذلك مخطئون حائدون عن سبيل أئمة الهدى.
ولما كان يجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين، خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، خصوصا أهل الحديث والسنة منهم كالإمام مالك والشافعي وأحمد والبخاري والدارمي وابن تيمية وابن القيم والشيخ الألباني في هذا العصر؛ ارتأينا كتابة هذه الورقات دفاعا عن أهل الحديث والسنة عموما؛ وردا للباطل المدسوس في كلام بعض المفكرين والدعاة ممن ينتسب إلى السلفية والأشعرية على حد السواء.
وحتى يكون كلامنا بعلم وعدل وإنصاف، لابد من سلوك سبيل الموضوعية والتعقل الخالية من الهوى والتعصب، ومن البغي والعدوان، ولا يتم ذلك إلا بتجريد التوحيد، وتحقيق قول السلف: كن مع الحق بلا خلق ومع الخلق بلا نفس، ثم إنه لابد مع ذلك من معرفة سبيل المؤمنين على التفصيل، ومعرفة سبل أهل البدع والمنافقين والكفار والمشركين على التفصيل، فإنه من كان كذلك كان من أنفع الخلق للناس، وأنصحهم لهم، وأعلمهم بالحق، وأتبعهم للهدى والرشاد، وأبعدهم عن الغي والضلال، فكان من أحب الخلق إلى الله عز وجل.
وهذا الإمام ابن القيم –رحمه الله- يبين أنه من كان خبيرا بطريق الهدى وطريق الضلال، متبعا للرشاد مجانبا للغي كان من أفضل الخلق، إذ يقول في الفوائد ج: 1 ص: 1
قاعدة جليلة: قال الله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}، وقال: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} الآية.
والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة، وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء والأسباب التي خذل بها هؤلاء، وجلا سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان، حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام.
فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده، والطريق الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق، وأنفعهم للناس، وأنصحهم لهم، وهم الأدلاء الهداة.
وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشأوا في سبيل الظلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى الهلاك وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به، ومقدار ما كانوا فيه، فإن الضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها، فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه، ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام، وأبغض الناس في ضده، عالمين بالسبيل على التفصيل.
¥